أزمة الدبلوماسية التونسية
الدبلوماسية فنّ إدارة العلاقات بين الدول، ونافذة أيّ بلد على العالم، وجسر تواصل بينه وبين القوى الدولية والإقليمية، وهي الضّامن لانخراط الدولة في المجتمع الأممي، وسبيلها إلى الفعل فيه قصد الحفاظ على كينونتها، وسيادتها، وهويتها وتأمين مصالحها. وهي قوة ناعمة، قوامها التمثيل السياسي للدولة في الخارج، وتنظيم علاقاتها بالدول الأجنبية من خلال إبرام الاتفاقيات والمعاهدات والشراكات في مجالات مختلفة. وتنبني أساساً على سياسات المرونة والانفتاح، وتهدئة العلاقات مع الدول الأخرى بدل توتيرها، ومدّ جسور التواصل معها في كنف الاحترام المتبادل، والتعاون البنّاء. وتقتضي الدبلوماسية الناجحة أن يكون لدى الفاعلين الدبلوماسيين (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، وزير الخارجية، السفراء ...) دراية دقيقة بمستجدّات الوضع المحلي، والمشهدين الإقليمي والدولي، وأن تكون لديهم قدرة على قراءة الواقع، واستشرافه بطريقة عقلانية، وأن يكونوا من ذوي المهارة العالية في مجال التواصل السياسي، والتفاوض لأجل ضمان إشعاع الدولة، وتصريف شؤونها الخارجية بطريقةٍ ناجعة، والحفاظ على مصالحها الحيوية، وتعزيز شراكتها الاستراتيجية مع دول أخرى، سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً. فعلى الدبلوماسية المعوّل في ترويج صورة بلدٍ ما، وصناعة رأي دولي داعم لقضيةٍ ما، ومن خلالها يمكن استقطاب مشاريع استثمارية كبرى، وفعاليات ومؤتمرات أممية رائدة، ومن خلالها يمتدّ نفوذ دول، وينحسر امتداد أخرى.
ويتبيّن للناظر في الحالة التونسية أن الفاعلين السياسيين نجحوا نسبياً بعد الثورة في استثمار التجربة الديمقراطية للتعريف بتونس جديدة، قطعت خلال العشرية المنقضية مع الدكتاتورية، والتعذيب، والمحاكمات غير العادلة، ومع حكم الحزب الواحد. وأسّست لمشروع دولة تعددية، انبنت على احترام الحريات العامة والخاصة، والتفريق بين السلطات، وتأمين التداول السلمي على الحكم. ومكّن ذلك النهج في إدارة البلاد من صعود صورة تونس إقليمياً ودولياً، باعتبارها نموذجاً لديمقراطية عربية، سلمية، ناشئة. وكسبت التجربة الديمقراطية الوليدة تأييد قوى عظمى مثل الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. ولم تجد البلاد وقتها صعوبات كبيرة في الحصول على قروض ميسّرة من الجهات الدولية المانحة. وحافظت على علاقات دبلوماسية متوازنة مع الشرق والغرب. ولزمت الحياد إزاء أزماتٍ إقليمية مثل الأزمتين الليبية والخليجية. وكان لمؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية دور فعّال في تمثيل الدبلوماسية التونسية، والتعريف بالتجربة الديمقراطية الناشئة، وضمان حزام اقتصادي وسياسي داعم لها إقليمياً ودولياً.
منذ صعود قيس سعيّد إلى سدّة الحكم (2019) والدبلوماسية التونسية إلى انحسار
لكن المشهود منذ صعود الرئيس قيس سعيّد إلى سدّة الحكم (2019) أنّ الدبلوماسية التونسية آلت إلى الانحسار، فالرجل لم يفصح، خلال حملته الانتخابية، عن برنامج واضح المعالم في خصوص إدارة العلاقات الخارجية. واكتفى بالانتصار للقضية الفلسطينية، والقول إنّ "التطبيع خيانة عظمى" من دون أن يقدّم مقترحات عمليّة لتمكين الفلسطينيين من استرجاع حقوقهم التاريخية. ووعد بتعزيز علاقات تونس بمحيطها المغاربي من دون أن يقدم تصوّرات مفصّلة في هذا الشأن. والمرجّح أنّ الإنجاز الدبلوماسي البارز الذي تحقق على عهد قيس سعيّد، تمثل بنجاح الخارجية التونسية ومؤسسة الرئاسة في كسب تعاطف المجتمع الدولي إبّان استفحال فيروس كورونا في البلاد، فقد هبّت دول عديدة لنجدة تونس. وكانت للجهود الاتصالية التي قام بها سعيّد مع زعماء الدول دور مهمّ في هذا الخصوص. عدا هذا المنجز في مستوى الدبلوماسية الصحية، غلب على الأداء الدبلوماسي التونسي زمن سعيّد الركود، وراكم الفشل في تنشيط الدبلوماسية الاقتصادية والسياسية. ولذلك تجلّيات عدّة. سياسياً، كانت مبادرة قيس سعيّد، غلق البرلمان المنتخب، وإقالة الحكومة، وحلّ هيئة مراقبة القوانين والمجلس الأعلى للقضاء وإدارة البلاد بتدابير استثنائية (25/07/2021) انفرادية، ومغامرة شخصية، لم تجد قبولاً واسعاً في الداخل والخارج. فإذا استثنينا دولاً عربية كهذه، فإنّ معظم دول العالم الحر، والمنظمات الأممية الوازنة (الأمم المتّحدة، الاتحاد الأوروبي، مجموعة السبع...) لم تتفاعل إيجابياً مع الخطوات الأحادية للرئيس التونسي، ودعت مراراً إلى ضرورة استئناف المسار الديمقراطي، وبناء عملية سياسية تشاركية، لا تُقصي الأحزاب، ومكوّنات المجتمع المدني. لكنّ قيس سعيّد لم يلتفت كثيراً إلى تلك الدعوات، ولم يبالِ بالبرود الدولي في التعامل مع خطواته الانفرادية، ومضى إلى تركيز معالم حكم شمولي من خلال إصداره الأمر عدد 117 الذي استولى بمقتضاه على السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. وغدا يتمتّع بصلاحيات حاكم مطلق. كذلك ألغى دستور 2014 الذي بلورته مكوّنات المجتمع المدني التونسي، ووضع دستوراً وقانوناً انتخابياً على طريقته. ونظّم استفتاء على دستوره الجديد لم يحظ بتأييد شعبي واسع. ورتّب انتخابات تشريعية لم تتجاوز نسبة الإقبال عليها حدود 12% من مجموع الناخبين. وأرسل سعيّد بتلك الخطوات الانفرادية رسائل سلبية إلى الرأي العام الدولي، مفادها بأنّ تونس كفّت عن كونها مثالاً لديمقراطية صاعدة، وأمْست مثالاً لديكتاتورية ناشئة. ففي ظلّ حكم البلاد بمراسيم فوقية لا تقبل النقض، والتضييق على الحريات، واعتقال معارضين للنظام الحاكم، فقدت تونس بريقها الليبرالي، ورصيدها القيمي والمؤسّسي الديمقراطي الذي كانت تتباهى به، وتستثمره في المشهد الدبلوماسي الدولي. وخرجت عمليّاً من نادي الدول الديمقراطية. وكلّف ذلك البلاد خسارة كثير من الدعم اللوجستي، والمادّي، والتحفيزي الذي كانت تتلقاه من دول العالم الحر لإسناد التجربة الديمقراطية. وفي هذا السياق، كشف مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أنّ "الاتحاد بصدد النقاش لإيقاف المساعدات المالية الكبرى، إذا لم تعد تونس إلى مسارها الديمقراطي". وقال عضو الكونغرس الأميركي، كريس مورف: "من الضروري أن يفهم الرئيس التونسي أنّ تقديم الدعم المالي من المجتمع الدولي مرتبط بتصحيح المسار السياسي وعودة الديمقراطية في البلاد". وكثيراً ما واجه سعيّد تلك الضغوط الدبلوماسية الدولية الناعمة بشيءٍ من الاستخفاف والتوتر، متحجّجاً بمسألة السيادة الوطنية، قائلاً: "إنّ تونس متمسّكة بسيادتها، وترفض التدخّل في شؤونها الداخلية". والحال أنّ السيادة الوطنية يُفترض أن تكون خادمة للصّالح العام، ومتكيفةً مع مقتضيات العلاقات الدولية، لا أن تكون شعاراً شعبوياً، يوتّر علاقة البلد بشركائه التقليديين، ويزجّه في أتون عزلة دبلوماسية خانقة.
على صعيد آخر، لم تكن تدخّلات الرئيس سعيّد بشأن بعض الملفات الإقليمية موفّقة. فدعوته مثلاً إلى تجميع القبائل الليبية في حوار وطني ينتهي بدستور يُتوافَق عليه لقيت استهجاناً من طيف معتبر من الليبيين الذين رأوا فيها عودة بليبيا إلى مرحلة ما قبل الدولة وإحياء للنزعة العشائرية، وتهميشاً لدور الأحزاب الليبية في إدارة الشأن العام. كذلك أثار استقبال سعيّد زعيم جبهة البوليساريو في مطار قرطاج الدولي في أثناء انعقاد "قمّة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا" (تيكاد) في تونس استياءً واسعاً في المغرب، شعباً وحكومة. ونتيجة تلك الخطوة غير المسبوقة في تاريخ تعامل تونس مع قضيّة الصحراء، قاطع المغرب القمّة المذكورة، وسحب سفيره من تونس. وبذلك، أدّى انزياح سعيّد عن نهج الحياد الذي اعتمدته الدبلوماسية التونسية طويلاً في التعاطي مع القضايا الإقليمية الخلافية إلى تأزيم علاقات البلاد ببعض دول الجوار.
تحتاج تونس مراجعة نقدية جذرية لأدائها الدبلوماسي، حتى تستعيد علاقاتها التفاعلية البنّاءة
في مستوى الدبلوماسية الاقتصادية، نجحت تونس نسبياً في تنظيم قمّة "تيكاد 8" التي حضرها ثلاثمائة رجل أعمال من تونس، واليابان، وأفريقيا، مثّلوا أكبر 50 مؤسّسة اقتصادية عالمية. لكن حصّتها من مجموع الاتفاقيات المبرمة لم تتجاوز حدود ثلاث اتفاقيات لتمويل مشاريع لشركات ناشئة، وأخرى لقطاع التأمين، إلى جانب مشروع لتحلية مياه البحر. كذلك تحصّلت تونس في أثناء تنظيمها القمّة الفرنكوفونية في جربة على قرض من فرنسا قيمته 200 مليون يورو للحدّ من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي في البلاد. ومن ثمّة، العائدات الاستثمارية للقمتين محدودة. والثابت أنّ الأداء الدبلوماسي التونسي لم ينجح في التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية، فقد تراجع الترتيب السيادي لتونس بشكل غير مسبوق على عهد سعيّد، وواصل الدينار انحداره أمام العملات الأجنبية. وأصبح المزوّدون الأجانب يشترطون على تونس الدفع نقداً لقاء تزويدها بمواد أساسية، مثل الحبوب، والمحروقات والأدوية. كذلك غدت البلاد تجد صعوبات كبيرة في الخروج إلى السوق الدولية، والحصول على قروض ميسّرة من الجهات المانحة، وذلك بسبب حالة اللايقين السياسي، وعدم وجود برلمان منتخب، وعدم إشراك النظام الحاكم مكوّنات المجتمع المدني في بلورة أجندة إصلاحية اقتصادية تكون محلّ إجماع وطني. كذلك غادر عدد معتبر من المستثمرين البلاد، فرأس المال يبحث عن بيئة سياسية مستقرة وذات آفاق واضحة. وبناءً عليه، عطالة الدبلوماسية الاقتصادية راجعة، في جانب ما، إلى الواقع السياسي المأزوم الذي تعيشه تونس خلال السنوات الأخيرة.
ختاماً، تحتاج تونس إلى مراجعة نقدية جذرية لأدائها الدبلوماسي، حتى تستعيد علاقاتها التفاعلية البنّاءة والناجعة مع جوارها الإقليمي ومحيطها الدولي. ومن المهمّ في هذا الخصوص إعادة ترتيب البيت الداخلي، واستئناف المسار الديمقراطي، حتّى تستعيد البلاد ثقة شركائها الدوليين. وإن لم يكن، فالمرجّح ان تظلّ البلاد رهينة أزمة اقتصادية خانقة، وأسيرة دبلوماسية انعزالية فاشلة.