أرى في بداية كل عام أملاً

29 ديسمبر 2022

(مجدل نتيل)

+ الخط -

أحاول جاهداً، في نهاية كل سنة، أن أصلح من حالي ومن بيتي الصغير أيضاً، كأن أُسعد الحمام "بكيلو قرطم"، أو أسعى جاهداً إلى شراء نتيجة العام. واليوم ركّبت ترباساً لغرفة وضحكت مع الحمام الذي يقف فوق المروحة الساكنة من أول الشتاء، فدُستُ على زر الكهرباء، فرقص الحمام من فوق المروحة الدائرة، ثم طار.
تمتلك الطيور أيضاً خفّة ظل وكأنها تعرف المزاح. تؤكّد لنا السنوات حينما تتبعثر خلفنا أنه رغم الفشل هناك انتظار للفرح، والإنسان كائنٌ ينتظر الفرح، حتى وإن مسّته موجة كآبة ما.
في ختام السنة، نتأمل ما جنيناه وما كنا ننتظره. بالفعل قلّت صحبتنا وتقلصت، والصحة أيضاً، وصرنا أكثر تعقلاً وتمحيصاً لتلك الأوقات التي أهدرناها في انتظار ما لا يأتي، رغم أنني لم أكن، في أي يوم، أحلم بالمستحيل أبداً. كنت دائماً أعيش على قدر "لحافي". وأحياناً كنت أطوي رجلي كي يكفيني اللحاف الأقلّ طولاً. ولكن كنت أنام سعيداً وما أحسستُ أبداً بمظلمةٍ كونيةٍ طوال عمري.
كنتُ أجري، كي أحصل على أفراحي الصغيرة، والتي سبقني في نيلها من سنواتٍ من هم أصغر مني بكثير، ولكنني كنتُ في تمام اليقين والمعرفة بمتعة الرضا، تركتُ بلدتي ورحلتُ إلى القاهرة بكتابين في حقيبة صغيرة، وعشتُ في غرفة. كبُر أولادي وصاروا أكثر مما أحلم به أنا قليل الأحلام في مثل هذه المواضيع. وأخيراً، عدتُ إلى موطني، أرعى بقية أحلامي، بعد ما ذهبت عنها الضروريات. أكتب ما أحب بلا ضغينة، لا مع الماضي ولا مع الحاضر، ولا حتى المستقبل. فقط أرعى حمام أحلامي، وأصحو مبكّراً خالياً من الأذى.
لى أوهامٌ عن كتب مؤجّلةٍ سوف أتمّها في هذا العام الجديد، أجهز كعادتي الأوراق، وأشتري نتيجة العام مرّة واثنتين، وأذهب إلى البحر كي أسأله: "هل أنا أخطأت؟" أحياناً أرى من يشبهني وفي حالة يصعب عليّ تحمّل قسوتها، وخصوصاً ممن "ليس لهم أي سكن والحديقة هي سكنهم". أنظر إلى مرح الكلاب على شاطئ النيل، وأجدهم في مرح، فأمشي حتى "الأخصاص"، أناوش أفراح قلبي القديم بعد ما كبر وصار يتعبه المشي، أنا الذي كنت أمشي بلا تعب كغجريٍّ ومن تحتي الريح.
هل نتيجة السنة الورقية هي بمثابة بوابة الفرح للدخول في غموض السنة، في غموض الأيام التالية، في غموض مقدّمات فرح لم نستدلّ بعد على ملامحة أو أسراره، مشاغلنا وحيواتنا وبقية آمالنا، سواء أعشنا أياماً أو شهوراً أو لسنوات قلّت أو كثرت، ألم ستكون مثلما عشناه سابقاً؟ فما حقيقة التشبث بذلك الفرح القادم في كل سنة؟
ليست لدي أحلام تتعلق بالأسفار أو المعيشة على الدانوب أو بناء الفيلات أو ركوب الطائرات أو السعي وراء الشهرة، فقد اكتفيتُ من سنوات بظلال نخيل ما حققته وأستظل به، وأفرح أيضاً به بلا خجل، إلا أنه في كل عام يهفو طرف خاطري لأوائل السنة المقبلة. وأشتري النتيجة وأذهب إلى النهر وأفرد كشف حسابي فوق الجبل، هناك فوق "جبل سواده". وأنا جندي أحمل السلاح في الخدمة بعد مقتل أنور السادات بشهور، وأقرأ بجوار "دشمة الذخيرة" آلام فرتر، أو وأنا أذهب إلى "جبل الطير"، كي أنصت لحكايات الأموات تحت شواهد القبور، وأعود مغسولاً من الهم، وكنت ساعتها لا أترقّب أو أترصد "الأمل"، بشراء نتيجة السنة. كانت السنة تبتعد عني وكأنها لا تعرفني، لأنني لم أكن أعرف أيامها حسبة العام الجديد ولا الأمل الجديد. كنت كزاهدٍ من دون أن يعرف ذلك، وكان كل أملي أن أسافر هارباً كغجري إلى أي مكان أو إلى أي أمل مخاتل، حتى عدتُ أخيراً إلى "جبل الطير"، كي أتأمله من بعيد، وإلى "جبل سواده"، وأنا أراه منكمشاً ساكتاً في مكانه، فقط النيل هو الذي يمشي تحت كتف الجبل مواصلاً محبته للنماء. نعم نكبر وتصعب علينا أحمالنا أو ما تحمّلناه، ولكن هناك ذلك الأمل في نهاية كل عام، كي يأتي ويقول لنا: لم يضع التعب هدراً، فهناك أشياء جميلة في انتظارك، حمام، وكتب، ومسوّدات عزيزة عليك تريد أن تكتمل، وأصحاب قلة في المقهى يسألون عنك إن غبت، وأولاد هناك يخطون نحو الأمل بحزم أكثر من حزمك بكثير، إلا أن الجمال لا يقدّر بثمن، وعمر جميل لمن يحلم بسنة أخرى، حتى وإن جاءته من حنك سبع كما يقال.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري