أرقٌ مستبدّ وليلٌ بلا نهاية

30 مايو 2022

(فرنسيس نيوتون سوزا)

+ الخط -

ليل طويل بلا نهاية، أرقٌ مستبدّ، أفكار تتصارع من دون أن تدع للصلح مطرحاً في رأسها المكتظّ بالهواجس، وتكات ساعةٍ لحوحةٍ تذكّر السيدة القلقة بقسوة الزمن حين ينوي التباطؤ، أخذت نفسها اللوامة تحاسبها بلا هوادة، بسبب حماقاتها الكثيرة، كان على رأس القائمة عاداتها غير الصحّية التي سيطرت عليها في الآونة الأخيرة، الإفراط في التدخين، المبالغة في شرب القهوة وتناول الأطعمة الجاهزة المشبعة بالدهون. وضعت اللوم كله على ممثلها المفضل، آل باتشينو، لأنه قال مرّة: "أقلع عن التدخين وتناول الأطعمة الصحية ونم ساعات كافية وسوف تموت بصحة جيدة". قرأت ذلك على أحد المواقع التي تغطّي أخبار النجوم. أعجبتها الجملة، رغم سخريتها المريرة، لأنها تنطوي على كثير من الحقيقة.
تزامن ذلك مع وفاة قريبٍ لها معروفٍ بشدّة حرصة على صحته، وقد ألزم نفسَه بنظام غذائي صارم. لم يشكُ أيّ شيء. ولطالما تباهى بأنه في أفضل حال، بسبب ابتعادِه عن العادات غير الصحية، ومواظبته على ممارسة الرياضة، رغم بلوغه الخامسة والستين. وقد خلا سجلّه الطبي من أمراض الشيخوحة، كان ضغطه ومستوى السكر في جسمه في المعدل الطبيعي، ولم يعانِ مثل أقرانه من ارتفاع الكولسترول. قالت أرملته، وهي تذرف دموعاً غزيرة، إنه عاد من نزهته المسائية. أخذ حمّاماً ساخناً، تناول طبق سلطة مع قطعة جُبنٍ خالية الدسم. استمع إلى مقطوعاتٍ موسيقيه هادئة، وخلد إلى النوم قرير العين، غير أنه لم يستيقظ في اليوم التالي، مات بهدوء في أثناء نومه، إثر تعرّضه لسكته قلبيه حادّة.
تذكّرت السيدة القلقة، وهي تقوم بواجب العزاء، مقولة آل باتشينو سامحه الله. قرّرت أن تعيد النظر في نمط حياتها الرتيب المملّ منزوع النكهة. تساءلت بحنقٍ حقاً عن جدوى الحرمان من متع الحياة طوعاً، من أجل بضع سنواتٍ إضافية، ليست مضمونة على أية حال! تمنّت لو أن آل باتشينو لم يقل تلك العبارة اللئيمة التي قلبت حياتها رأساً على عقب. قرّرت، بعد طول تأمل، التخلي عن كل المحاذير التي نغّصت عليها لذة العيش طويلاً، فظلت سنواتٍ مواظبةً (تماماً مثل قريبها المتوفّى بكامل لياقته الصحية) على الاشتراك في المركز الرياضي بشكل يومي، وحريصة على تناول الخضروات والفواكه وممارسة رياضة المشي في المساءات. كذلك عيّنت نفسها محاربةً شرسةً لعادة التدخين، وظلت تحثّ الصديقات على ترك تلك العادة السيئة، ما أثار مللهن من رفقتها ومواعظها التي لا تنتهي، فابتعدن عنها تباعاً، بعد أن منعتهن من التدخين في منزلها، وظلت تعتذر عن عدم دعوتهن إلى مآدب حافلة بالطعام الدسم.
لم تغضب حينها، بل أحسّت بالارتياح لخلاصها من رفيقات السوء، البارعات في إعداد الأطباق الشهية التي يصعب مقاومتها. تغير الآن كل شيء. أعادت علاقتها بالصديقات اللواتي فرحن بقرارها التخلّي عن تزمّتها الصحّي، وخوض مغامرة الحياة من دون حسابات. قالت لها إحداهن: "العمر واحد والرب واحد، يا عزيزتي، لا تعقّدي الأمور. نحن لسنا أكثر من زوار على هذه الدنيا، فلنعشها بكل ما أوتينا من طاقة على الحياة. ضعي جانباً ترّهات الأطباء، فحين تحين لحظة موتنا، لن تعوقها أي تدابير احترازية". وقالت ثانيةٌ: "لم ننسَ بعد ما عانيناه مع كورونا. اقترب الموت منا كثيراً، وأخذ أحبة لنا، وها نحن نواجه من جديد رعب جدري القرود، وربما سيدخلوننا في الدوامة الكريهة ذاتها".
دارت كل تلك الأفكار في رأسها المسكون بالقلق والتوجّس، وهي تصارع الأرق الذي تمكّن من حواسّها. غادرت الفراش، وراحت تتابع عبر هاتفها مستجدّات المحكمة التاريخية (!) بين الممثل جوني ديب وزوجته آمبر هيرد، إلى أن غلبها النعاس في النهاية. وما إن غطّت في النوم، حتى داهمت أحلامها قبيلة من القرود السوداء الغاضبة التي ظلت تزعق بلا توقف في ليلها المرعب الطويل.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.