أرقام وألغام
مرّت بسلام ألغام نتائج استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، المعلن قبل أيام، وهو، وفق ما أراه، أحد أخطر الاستطلاعات التي أجراها المركز منذ بدأ يجريها في العام 1985، غير أنه لم يثر غبارًا، والفضل في ذلك يعود، بالدرجة الأولى، لـ"جنود" الإعلام في الأردن، بشقيه، الرسمي والخاص، الذين يحفظون الخطوط الحمراء أزيد من حفظهم درس "راس روس" في الصفّ الأول ابتدائي. ويُحسب لهم أنهم باتوا أمهر العارفين بانتزاع فتائل "الألغام" التي يمكن أن تثير الغضب الرسمي. وذلك بفضل قدرتهم على طمس الأرقام "المتفجرة"، واستبدالها بأخرى "مطفأة" لا تستوقف قارئًا، ولا تشدّ انتباه سامع، فقد كان العنوان الرئيسي المشترك الذي خرجت به سائر الصحف الأردنية عن نتائج الاستطلاع التي أفصح عنها المركز يوم 26 من الشهر المنصرم (أكتوبر/ تشرين الأول)، عنوانًا مكرورًا لسائر الاستطلاعات التي سبقته، الذي لا تتباين فيه النسبة الرئيسية إلا قليلًا: "67% من الأردنيين لا يثقون بالحكومة".
أما الجديد "المطموس"، وتم تحييده وإبقاؤه طيّ السطور الغبراء، فهو أن نصف الأردنيين تقريبًا فقدوا ثقتهم بالقضاء، إذ تراجعت الثقة بهذا الجهاز الذي يعدّ أحد أذرع السلطات الرئيسة الثلاث، من 64% إلى 53%، وهذا مؤشّر خطير للغاية، لأنه يتعلق بالأمن الاجتماعي، والخشية من تردّي الثقة أزيد فأزيد، لأن ذلك يعني أن آخر ما سيلجأ إليه المواطن لإنصافه هو القضاء، بل والأخطر أن المواطن سيعتقد أن العدالة ليست من حقه أصلًا، ما دام القضاء "خصمًا"، وأن السائد هو شريعة الغاب فقط، ولا مكان لغير "المسنود" عشائريًا أو رسميًّا أو ماديًّا، في هذا المجتمع الذي ما يزال القضاء العشائري فيه أعتى من نظيره المدني، بدليل أن "الجلوة العشائرية" التي تم تخفيض شجرة عائلتها أخيرا، عقب تحرّكات واجتماعات مضنية، كانت تلزم عشيرة الجاني حتى الجدّ الخامس بالجلاء عن المنطقة التي تقطن فيها عشيرة المجني عليه.
ومن "الألغام" القابلة للانفجار أيضًا ذلك الرقم الذي يشير إلى تراجع ثقة المواطنين بسائر المؤسسات الرسمية والأهلية. ولئن كان مفهومًا تراجع الثقة بالمؤسسات الرسمية، والإعلامية (يعتبرها المواطن "رسمية" أيضًأ، وإن لم تكن كذلك) من 48% إلى 39% أي بواقع عشر درجات عن الاستطلاع السابق، لكن أن تتراجع الثقة، أيضاً، بالنقابات المهنية والعمالية والأحزاب، فذلك مؤشّر باعث على القلق كذلك، سيما لبلدٍ ينتظر تعديلات جوهرية على القوانين ذات المساس بالحريات العامة خلال دورة البرلمان المقبلة، انسجامًا مع توصيات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، فكيف يستقيم فقدان الثقة الشعبية مع التوجهات الرسمية المعلن عنها؟ أليست تلك معادلة صعبة تحتاج الكثير لحل ألغازها و"ألغامها".
وفي اللغم الأخير، نقرأ، أيضًا، أن 72% من الأردنيين لا يثق بعضهم ببعض، أي أن أزيد من ثلاثة أرباع الشعب يستريب الواحد منهم بالآخر، بكل ما يعني ذلك من تفاصيل دقيقة يصعب حصرها في مقال واحد، فالنسبة ضخمة للغاية، ولو أردنا تبسيطها لقلنا، مثلًا، إن الجار لا يثق بجاره الذي يشاركه سكنى البناية والحيّ، بينما يمتدّ انعدام الثقة مناطقيًّا وعشائريًّا أيضًا، ولنا أن نتخيل بعد ذلك كيف ينعكس انعدام الثقة هذا في التعاملات اليومية. والمعضلة أن هناك من يحاولون المواربة على هذا اللغم الخطير، بحديثٍ يثقب الآذان صباح مساء عن متانة الهوية الوطنية الجامعة وعن انصهار شتى المنابت والأصول في وحدة دامجة، غير أن أحدًا لا يلتفت إلى هذا الرقم الصادم الذي يفصح بوضوح عن "هوياتٍ" مشتتة، حائرة، كلما حاولت الاندماج وجدت ألف سدّ في وجهها، تحت شعارات قديمة جديدة، على غرار "شرق أردني" و"غرب أردني"، و"أردني الأصيل"، وآخر "مهجّن"، وشركسي، وشيشاني، وشامي، وفلسطيني، على الرغم من أن الأردن يحتفل اليوم بمئوية التأسيس الأولى، وكان حريًّا أن تذوب مع هذه المئوية سائر الهويات الفرعية، لكنها بقيت "صامدة" تعلن عن نفسها عند أدنى محكّ، حتى لو كان في لعبة كرة قدم.
وفي محصلة الأرقام والألغام تلك يبقى سؤال واحد: تُرى، منْ يتعمّد تمزيق النسيج الاجتماعي الأردني؟