أرشيف يحتفي بالذاكرة

23 فبراير 2023

(هلال سامي هلال)

+ الخط -

أعود، بين فترةٍ تطول أو تقصر وأخرى، إلى أرشيف مقالاتي، لأتفقد شيئا ما لا أعرف ما هو بالضبط. لكنه شيءٌ يشعر بشيءٍ من الشجن الممزوج بالحنين وأحيانا بالغرابة والغربة في آن معا، خصوصا وأن بعض ما كنت أكتبه يبدو لي أحيانا وكأنني أقرأه أول مرّة في حياتي. نسيت متى ولماذا كتبته، وبأي مزاجٍ كنت آنذاك. ألهذا يحبّ الكتّاب أرشفة مقالاتهم والاحتفاظ بها؟ ربما، ولعلّها حيلة تسند الذاكرة عندما تبدأ في أولى مراحل الانهيار، وربما لهذا أصلا ابتكر البشر الكتابة. ولهذا احتفوا فيها وحافظوا على مكانتها واجتهدوا في ابتكار ما يحافظ عليها في وجدانهم، فكان الشعر وكانت كل الكتابات الأدبية الأخرى لاحقا. 
بدأتُ كتابة المقالات الصُحفية، أسبوعيا، وفي فترة يوميا، منذ أكثر من ثلاثة عقود. في صُحفٍ يومية ومجلات أسبوعية وشهرية ومواقع إلكترونية، وفي مدونة شخصية أيضا. في البدايات القديمة، كنت أكتب في الأدب وموضوعاته المختلفة وحسب، وأتردّد قبل الموافقة كثيرا عندما تُطلَب مني الكتابة في شأن آخر لا يتعلق بالأدب وفقا لمفهومه الدقيق، على اعتبار أنني، في تلك الكتابات، أجدني متطفّلة على ما لا أجيد الكتابة عنه وما لا أهتم به غالبا. لكنني، ومنذ عشر سنوات تقريبا، انفتحت على كل الموضوعات الحياتية الأخرى، ليس لأن موضوعات الأدب قد نفدت، أو أنني شعرت بالملل في الكتابة فيها، بل لأنني صرتُ أفهم أن الأدب هو الحياة كلها، وما أكتبه في السياسة أو الفكر أو الفن أو حتى الرياضة هو أدب أيضا، فكما أن موضوعات الأدب هي موضوعات الحياة نفسها، فلا مانع إذن من أن تكون تلك الموضوعات مادّة لكتابةٍ تتكئ على الأدب. 
في كل مرّة أعود فيها إلى أرشيف المقالات، أحاول أن أتمّم مهمة فرزها وترتيبها وتصنيفها وفهرستها، وهي بالمناسبة مهمة صعبة، على الرغم من مهارتي في التنظيم والترتيب والفهرسة. أما صعوبتها فتعود إلى أن عددها كبير جدا، وكثيرا منها ما زال ورقيا فيحتاج مني إلى جهد مضاعف في الترتيب والفهرسة، على العكس من المقالات التي تعود إلى السنوات الأخيرة، والتي أحتفظ فيها بحلول إلكترونية سهلة التداول، كما أن قراءة تلك المقالات مرّة أخرى تأخذني إلى أزمانها وظروف كتابتها وما تحيل إليه وما تذكرني به، فأنسلّ غالبا من المهمة التي كنت أودّ إتمامها لأدلف إلى مهمّات أخرى لم أكن أفكّر فيها، أولاها النقد الذاتي لما كنت أكتبه على صعيد اللغة والأسلوب ودرجة الصراحة والمكاشفة والوضوح فيها. لكن ما يُسعدني ويطمئن روحي في كل مرّة أن شعوري بأنها ما زالت تعبّر عني بأفكارها العامة باقٍ. وهو ما يساعدني على الاحتفاظ بها ومقاومة شعور غريب يداهمني أحيانا، ويدفعني إلى التخلص من كل شيء أحتفظ به. 
ضعفت أمام ذلك الشعور وأنا بصدد أشياء أخرى غير الكتابة بالمتعلقات الشخصية والهدايا والمعتّقة ورسائل كثيرة وتذكارات صغيرة، وأحيانا الكتاب أيضا، لكن الكتابة شيءٌ آخر تماما، ربما لأنها غطاء لذلك وتعبير عنه، بل وتعويض له أيضا. ولعل هذا من خصائص الكتابة الساحرة، والتي كما أظن لم نكتشف منها سوى القليل على مدى التاريخ البشري كله. 
أعود إلى مقالاتي لأفتّش بينها عن أيام لم تضع كما كنت أظن، ولكنها غابت قليلا بأفكارها وآرائها وأحداثها وحكاياتها وأشخاصها لتفسح المساحة لجديد الأفكار والآراء والحكايات والأشخاص، ذلك أنها قادرة على احتواء العالم كله عبر الكلمات وحدها، ولعل في هذا أجمل احتفاءٍ حقيقيٍّ بالذاكرة التي نعوّل عليها للبحث عن تاريخنا الشخصي المتراكم في الكلام، كلما اعتقدنا أننا في طريقنا إلى الموت!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.