أخلاقية الاعتذار الألماني لناميبيا
طوت ألمانيا، أول من أمس الخميس، نظرياً، صفحةً مريرة في تاريخها الاستعماري في ناميبيا، في أقصى الجنوب الغربي من القارّة الأفريقية، بعد اعترافها بارتكاب إبادة ضد شعبي هيريرو وناما بين عامي 1904 و1908، أودت بحياة نحو مائة ألف من هيريرو وعشرة آلاف من ناما. لم يكن السياق التاريخي للمجزرة مغايراً لكل أنواع الاستعمار في التاريخ البشري: يكتشف "أحدهم" بلاداً. يحتلها. يزرع مستوطنة. يهاجمها أصحاب الأرض. يردّ المستعمر بحملة إبادة. لكن الألمان الذين "اعتادوا" على تقديم الاعتذارات على ما فعلوه في الحربين العالميتين، الأولى (1914 ـ 1918) والثانية (1939 ـ 1945)، بل ودفع تعويضات طويلة الأمد، اختاروا هذه المرّة الانتهاء من ملف ناميبيا، بالتعويض بمبلغ 1.1 مليار يورو، تُقدّم على مدى 30 عاماً. وعلى الرغم من تعليلهم، على لسان وزير الخارجية، هايكو ماس، بأن الأموال الألمانية "ليست تعويضاتٍ على أساس قانوني"، إلا أن ارتباطها ببرنامج "إعادة الإعمار والتنمية" ثلاثة عقود مستقبلية يطرح فكرة قديمة ـ جديدة: عودة الاختراق الألماني للقارّة الأفريقية، في ظلّ تعدّد اللاعبين فيها، بل وتطوّر الملفات الخلافية فيها إلى درجاتٍ مقلقة، مثل سدّ النهضة، والأوضاع الداخلية في إثيوبيا، وتحدّيات الساحل الأفريقي وتشعّباته في النيجر ومالي، ومذابح الكونغو الديمقراطية، وصولاً إلى ملف المهاجرين الأفارقة، الهاربين بأعداد هائلة يومياً إلى أوروبا.
لم تكتفِ برلين، مثلاً، بمنح المبلغ التعويضي لويندهوك، بل اختارت مدىً زمنياً، يسمح بتكريس تغلغل جديد، في واحدةٍ من المستعمرات الألمانية القديمة في أفريقيا. ولن يكون غريباً، إذا خرج الألمان بعد وقتٍ ما ببيانٍ مشابه لناميبيا، ويتعلق بتنزانيا في الشرق الأفريقي والكاميرون في غربه. التمركز في ناميبيا سيسمح للألمان بالتحكّم عملياً في الخط البحري من أوروبا إلى جنوب أفريقيا، عبر المحيط الأطلسي، ومنه إلى الجزء الجنوبي تحديداً من القارّة الأميركية.
هذه الخطوة الألمانية التي تلت اعتراف فرنسا بمسؤوليتها عن مجازر رواندا 1994، على الرغم من "عدم تواطئها" وفقاً للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في كلمته في رواندا، أول من أمس الخميس، تكشف كيفية تعبيد الأوروبيين طريقهم للعودة إلى القارّة القديمة. وإذا كانتا، ألمانيا وفرنسا، من الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية الواسعة، فإن بلجيكا، الصغيرة أوروبياً، كان لها دور مظلم في تاريخ الكونغو الديمقراطية، وهو ما دفع الملك فيليب، في يونيو/ حزيران الماضي، إلى التعبير عن "أسفه العميق" لرئيس هذا البلد، فيليكس تشيسيكيدي، عن المجازر التي ارتكبها المستعمرون البلجيكيون، بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال بلاده. ومع أن "الأسف" لم يصل إلى حدّ "تقديم الاعتذار"، كي لا تتكبّد بروكسل تعويضاتٍ ضخمةٍ عن إبادة أكثر من عشرة ملايين كونغولي على يد الملك ليوبولد الثاني، بين عامي 1888 و1908، إلا أنه شكّل نوعاً من "كسر جليد"، يسمح لبلجيكا بوضع قدمٍ في عمق أفريقيا.
لا يُمكن وضع التحولات الأوروبية الأخيرة خارج سياقات تدهور الوضع الاقتصادي العالمي، بسبب وباء كورونا، وتدفق المهاجرين إلى أوروبا، وتنامي الدور الصيني في القارّة، خصوصاً في مفاصلها الحيوية، وعلى مداخل المضائق البحرية وخطوط الشحن. الهدف الأساسي للأوروبيين لا يختلف عن هدف الولايات المتحدة، وهو مواجهة التمدّد الصيني أولاً، والروسي ثانياً، في تلك القارّة. لذلك، لا يمكن صدّ الاستثمار المتواصل للصينيين من دون القيام باستثمار مماثل، وهو ما أدركه الأوروبيون متأخرين، لأن خسارة أفريقيا بالكامل تعني خسارتهم أسواقاً ويداً عاملة، ما قد يؤدّي إلى تراجع المقدّرات الأوروبية، وصولاً إلى مرحلة ما قبل اتفاقية وستفاليا 1648، حين هيمن التآكل الداخلي والحروب على القارّة العجوز. وسط هذا كله، تبدو "أخلاقية اللحظة" المُراد تعميمها في العالم حالياً أقرب إلى جزءٍ من الاستثمار الفعلي، الذي يرسّخ عودة ألمانية إلى لحظة خروج أول مستوطن من الإمبراطورية الألمانية "لاستكشاف" أفريقيا.