أحزان الكتاكيت في مصر

27 أكتوبر 2022
+ الخط -

للكاتب الراحل عبد العال الحمامصي مجموعة قصصية اسمها "للكتاكيت أجنحة". لا أعرف لماذا تذكّرته، حينما رأيت عمّال مزارع الدواجن والكتاكيت ، وهم، بلا مبالاة، يرمون الكتاكيت الخضر في أكياس بالمئات تمهيدا لإعدامها، لنقص الغذاء لتلك الكتاكيت. المنظر يؤذي المشاعر قبل التحسّر على اقتصاد دولة كانت هي سلة قمح الإمبراطورية الرومانية، كما قرأنا ذلك في كتب التاريخ، خصوصا وأنا ابن قرى كنت أرى العجوزات بجوار أقفاص الجريد شتاء حارسات كتاكيتهن في الشمس خوفا عليها من العرسة والغراب والحدّاية، ومن كانت منهن شحيحة النظر كانت ذراعها لا تكفّ في الشمس عن ملامسة القفص من جهاته رغم إحكام غلق باب القفص. أما "طرف الجريد"، فدائما في حالة حركة ودفاع ضد مجهولٍ غامضٍ قد يأتي للأذى.

قلة حيلة أمام أزمات الواقع والدولار، وعجز نفسي واضح، خصوصا وأن هذه الصناعة يتعايش منها ما يقرب من ثلاثة ملايين من البسطاء وأصحاب المزارع والعمّال باليومية "4 ملايين دجاجة يومية تقدم كبروتين يومي للفقراء، علاوة على 40 مليون بيضة يومية ، ببساطة هي صلب صناعة وتربية مهمة لعدد ليس هينا من الناس في مصر". الغريب أنني تناسيت "للكتاكيت أجنحة"، لعبد العال الحمامصي، وجاءني صدى كتاب لمحمود السعدني اسمه "قهوة كتكوت"، ودائما كنت أتصوّر أن عيونه تشبه عيون كتكوت، رغم أنه كان شرسا كما يصفه السعدني، وهو يهيمن على مقهى مشهور في قلب ميدان الجيزة، مشغولٌ عن آخره بالطلبة الهاربين من المدرسة، أو من تركوا محاضرات الجامعة ظهرا وعمّال المخابز والباعة الجائلين عصرا. وفي أول الليل يصير المقهى سامرا لأهل الثقافة والصحافة من كل مذهب وأيديولوجية، سواء منهم من كان طليعيا أو عضويا أو مخبرا تحت التمرين. وفي آخر الليل يصير معبرا لمواعيد الهوى. وحينئذٍ، يصير المعلم كتكوت ذلك الشرس أرقّ من الورد وأضعف من يمامة. هل نحن في حاجة لكل هذا الأسى حينما تطول القسوة، الكتاكيت الخضر والزرق والأرجوانية، فيوضع الجميع في أكياسٍ من دون التفرقة في لون أو بذرة، تمهيدا لإعدامهم جميعا لنقص الغذاء؟ هل هذا دقّ جرس إنذار سلطوي خبيث، كي ينتبه الناس إلى ذلك السواد القادم؟ مع أننا ننتظر من سنوات ذلك الوعد "بكرة هتشوفوا مصر قد الدنيا"، فإذا بها تضيّق الرزق على قمحة الكتكوت.

الغريب أنني حينما أتلفّت حولي، أجد أكبر دولة تشتري الرافال بالمليارات، وتلك الدولة نفسها تبخل على الكتكوت، والغريب أيضا أنني أرى أطول سارية علم في العالم، وأكبر كنيسة وأكبر مسجد وأكبر ثريا تتدلّى من أكبر سقف وأعلى برج في العلمين، وأطول قماش علم وأعلى كوبري دائري وهكذا، فلماذا تضعُف قدرات هذه الدولة أمام حنك الكتكوت؟ هل ألوم عم عبد العال الحمامصي، الرجل الطيب الذي تخيل أن للكتاكيت أجنحة، رغم أن للكتاكيت أجنحة فعلا، إلا أن عم عبد العال بالغ في قوة أملها وقوة أجنحتها الرقيقة، وأخذته البلاغة بعيدا إلى خيمة الهلالية ومرج عامر، وكأنه أراد أن يصوّر لنا الكتاكيت بأجنحتها وقد صارت صقورا، وستدافع عن عرينها، إلا أن الكتاكيت، بحنكةٍ لا أعرف من ذلك الغشيم الذي ساقها، قد جرى إعدامها كجرس إنذار على ذلك الجوع القادم. أما المعلم كتكوت بعد ما توفاه الله، فحتما قد جرى هدم مقهاه كما ذكر السعدني تمهيدا لتحويله إلى محل أحذية أو بوتيكات أو محلّ حلويات أو عيادات للتحاليل ورسم القلب أو محلّ للفراخ البيضاء، كما حدث في فيلم "الكيت كات".

نحن أمام أسئلة كلها معذبة، وخصوصا حينما يأتيني صدى الكلمات العنترية مخاطبا خصومه: "أنا عندي 100 مليون، تقدروا تفطروهم بس؟"، الآن جاع الكتكوت، فتم إعدامه أمام عيون الكاميرات، والعمّال يمسكون بأكياس الإعدام وقد نكّسوا رؤوسهم، لقطة تحتاج مائة تحليل، لا لأساها، ولكن لفجرها وقلة مشاعرها وشفرتها المعدّة بمهارة وحيادية.

رحم الله محمد مرسي الذي لم يقتل لا كتكوتا ولا اشترى الرافال الذي يوضع في المخازن، ولكنهم قالوا له: "لو تعثّرت دابة في العراق لسئل عنها عمر"، فخلّ بالك يعني، إلا أن نفسي الضاحكة تقول لي: "أنت زعلان على كتكوت والشباب يلقى بهم في المراكب ومنها إلى أسماك المحيط"، وتذكّرت تلك النكتة عن ذلك الصعيدي الذي سمع أم كلثوم في: "صعبان علىّ قفاك"، فضحك الصعيدي وهو يصعد السقالة بالقروانة، وقال للعمّال ما قاله، ضاحكا تعليقا على كلام أم كلثوم الذي لم يفهم مرامي ألفاظه بدقّة.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري