أحد عشر عاماً عراقياً
لم يزد الجنرال الإيراني، رحيم صفوي، في الطنبور وتراً، لمّا قال، مرةً، إِن نفوذ بلاده في العراق يفوق نفوذ الولايات المتحدة فيه. هذه البديهية، تكاد تكون النتيجة الأَهم للاحتلال الأَميركي لهذا البلد العربي، وتكتمل غداً الأربعاء، إحدى عشرة سنة عليه. والذكرى تجعلنا، غصباً عنا ربما، نستدعي من أَرشيفها قول الوزير الأميركي السابق، كولن باول، إِن نجاح بلاده في العراق قد يعيد ترتيب المنطقة جذرياً، بطريقة إيجابيةٍ، تخدم المصالح الأميركية أكثر.
جهر باول بعبارته غير المنسية هذه، غداة إسقاط تمثال صدام حسين في المشهد المدوي إياه، وفي الذكرى، أن التمثال قاوم أَكثر من صاحبه، على ما كتب الراحل جوزف سماحة محقاً في حينه. وإِذا كان غباءً مفرطاً، رهان قلةٍ بين ظهرانينا على الرئيس العراقي المغدور أَن يقاوم ذلك الغزو، فإنه غباءٌ مستطرد أَن تؤخذ على محمل الجد الأوهام التي أَشاعها الأميركان، لمّا أَقدموا على الاحتلال المعلوم، ومنها مزحة كولن باول تلك، وكذا التسلي بإشاعة الديمقراطية وإصلاحات حقوق الإنسان في المنطقة، على ما ثرثر، بعض الوقت، جورج بوش ووزيرته كوندوليزا رايس، وديك تشيني وابنته ليزا.
تأتي تلك الخراريف الأميركية إلى البال، ونحن نطلُّ على أحد عشر عاماً عراقياً مضت، تتالت فيها وقائع الفساد السياسي ونقصان الأمن والأمان، واستبدّت كارثة الشحن الطائفي البغيض، وتتابع القتل والإرهاب، وقد أتقنتهما، وكيفما اتفق، القاعدة وأَشباحها، والميليشيات الفالتة. ولا يسعفنا التملي في هذا كله، وفي كثيرٍ غيره، في الوقوع على حادثةٍ تبهج النفس، شهدها العراقيون في أتون سنوات الاحتلال الأميركي، متبوعاً بالاحتلال الإيراني، بحسب تسمية الوزير السعودي، الأمير سعود الفيصل، وغيره، نفوذ طهران هناك. يُساق هذا الزعم هنا، إِلا إذا رأى بعضُنا نوبات الانتخابات التشريعية هناك مبهجةً، وأن عراق ما بعد "البعث" وصدام حسين في هذه الانتخابات يفيضُ بالديمقراطية، وأَنَّ هذا العراق الجديد يرفلُ بحرياتٍ غزيرة، بدلالة وفرة الجرائد والفضائيات والكلام المسترسل عن أي شيء.
تحدث حريات الكلام هذه، هناك، فيما يحكم نوري المالكي منفرداً، بعدما يسّرت له "محكمةٌ دستورية" فتوى، أَباحت له تشكيل تحالفٍ شيعي، مكّنه من أَغلبيةٍ مرتجلة في مجلس النواب، صنعت موقعه الراهن، ويطمح إلى تمديده في انتخابات الشهر الحالي. ولك في العراق أَن ترفع صوتك عالياً عن تهميشٍ وإقصاءٍ وحروبٍ، تُستهدف بها مكوناتٌ مجتمعيةٌ وعشائريةٌ وازنة، وتياراتٌ سياسية، لكن ذلك لا يمنع المالكي من أَن يأمر بتحريك قوة عسكرية، وهو وزير للدفاع بالمناسبة، لاعتقال نائبٍ منتخبٍ في منزله. لك أَن تقول ما تشاء عن فسادٍ وسرقاتٍ، وعن ضياع ملايين الدولارات من الدولة، لكن ذلك لن يعني شيئاً، لأَن الكلام هو المتاح، فيما المحاسبة والتقصّي والمعاقبة لا مطرح لها، أَو أنها تنفع بشأن فلان، ولا لزوم لها بشأن علان.
أَحد عشر عاماً عراقياً مضت، وازدحمت فيها عناوين الفشل الأميركي، مع الانكشاف العربي في أحد أهم البلاد العربية إمكاناتٍ وقدرات، في غضون تمدّد إيرانيٍّ سياسيٍّ واقتصادي واجتماعي صار خطيراً، بحسب إياد علاوي وأَنصاره، لا بحسب حارث الضاري وأتباعه. وإذ بادر باراك أوباما، في أثناء هذه الأعوام، إِلى سحب مئات آلافٍ من جنود جيش الاحتلال الأميركي، فإنه ترك العراق للذئاب، على ما قال صدقاً، طارق عزيز، في محبسه. وعلى ما نرى ونُعاين من نهشٍ متوحشٍ في هذا البلد، يرتكبه أَصحاب غرائز طائفيةٍ عمياء، في السلطة وحوافّها، ولدى جماعات الإرهاب الأسود، براياتهم وبيارقهم، تستلّ الشقاق الذي تريد من تاريخ الأمة. وفي الأثناء، تنسحب الأوهام الأميركية، عشية الاحتلال وغداته، إلى الأرشيف، فتمرح الذئاب إياها في الفناء... المحتل.