أحبّ أوكرانيا ولا أعرفها
كان لي صديقٌ اسمه أسامة خليل، هو عند الله منذ حوالي عشرين سنة، من قرى الجيزة، وسافر إلى الاتحاد السوفييتي في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بواسطة حزب التجمّع المصري الوحدوي، السيساوي فيما بعد "عظماً ولحماً ودماً ومصارين". كتب أسامة خليل رواية جميلة لم يلتفت إليها أي أحد في مصر منذ ثلاثين سنة اسمها "الشرق الآخر"، ومات كما يموت الناس في البلدان كافة، حتى أنا لم ألتفت إليها من ثلاثين سنة أيضاً، مثل كل الناس، رغم صداقتنا.
لم يكن أسامة عبقرياً ولا أي شيء من هذا، ولكنه كان يرى ويرصد ويكره بأعلى صوت، هل يغفر لي أسامة تجاهل كتابه ثلاثين سنة "الشرق الآخر"، حتى رأيتُ بنات أوكرانيات بالأمس يرقصن ويتمايلن بجمال ليلاً بعد انسحاب القوات الروسية من مدينتهن، خيرسون، ودخول القوات الأوكرانية المدينة. لماذا أحبّ أسامة خليل مدينة كييف خصوصاً؟ وهو الذي لا يحب أي مدينة؟ وكتب فيها كتابه "الشرق الآخر" بعد ترحيله من الاتحاد السوفييتي آنذاك إلى عدن؟ هل لو كان أسامة خليل يعيش حالياً لرقص الليلة مع تلك البنات الجميلات اللائي يحتفلن بالنصر ليلاً؟
مات أسامة فور أن وصل إلى مستشفى أحمد ماهر، بالكبد، بعدما وصل إلى مراحله النهائية في التليّف، ووضعوه بثلاجة المستشفى بعد ساعتين من دخوله. أسامة كان يحب بشدّة ويعشم بشدة، من الناحية الإنسانية، وكأن العالم يجب أن يكون كذلك مع المساكين وأصحاب القلوب الثورية والطيبة، مثله، حتى وإن شاب محبّتها طمع فادح، كان يريد حقه من الموسيقى، والحب، والفرجة، والسينما، والعالم أيضاً، كان يريد أن يكون شريكاً، وكان أسامة يكره قواعد الحزب ومخبريه في الاتحاد السوفييتي آنذاك، وفي مصر أيضاً. كان المخبرون المصريون من قواعد الحزب في روسيا لا يحبّون أسامة، في مجمل روايته "الشرق الآخر"، واتهمهم، بالحروف الأولى من أسمائهم، بأنهم سبب ترحيله إلى عدن، بعدما أحبّ أوكرانية وترك روسيا مسافراً بالقطار إلى هناك.
كانت أوكرانيا في رحلة أسامة في "الشرق الآخر" أكثر طيبةً من روسيا، لولا عيون المخبرين هناك، وكانوا من أهله من مصر، ومن قواعد حزبه، وأغلبهم صاروا تجّاراً فيما بعد للأفكار و"الأدوات الكهربائية"، وهم أول من هلّل لدخول بوتين أوكرانيا رغم أن مرض السكري هلك أغلب أجسادهم، ونظّروا لفائض العملات والذهب والألماس التي سوف يجنيها بوتين من الحرب ومن دخول أوكرانيا، وحسبوها بالساعات، أي الحرب الخاطفة، سكت الآن أغلبُهم عن التنظيّر بعدما زاد سكرهم وطالت الحرب، وحامت المجاعات بأطراف أفريقيا. ولكن ماذا تعمل في تجّار الأفكار، وهم أكثر شراسةً وغفلةً من تجّار القمح والدقيق؟
كان أسامة يعرفهم وهو طالبٌ منذ حُمل على الأكتاف قبل أن يمرض بالكبد في انتفاضة يناير 1977، وقد كان في حجم فيل صغير، وكان اسمه "أسامة الفيل"، رغم أنه كان يحمل قلب طفل طيب من الجيزة.
أحبّ أسامة أوكرانيا كغريب وصل إليها بعد شقاء ثلاثين سنة ما بين الفقر والسجون والنوم فوق سجادة متهالكة في مطبعة حزب التجمّع الاشتراكي الوحدوي، والسيساوي أخيراً، عامل طباعة بسيطاً بعدما تخرّج من الحقوق. أحبّ أسامة السينما وأحبّ الدنيا والسفر بمتاعه القليل وبصوته العالي وكاميراته التي لا تفارقه في أي مهرجان فيه رائحة السينما. كان أسامة يحبّ الكتابة "في نفسه"، ويعجز أمام رغباته المتصارعة أن يعطيها من إخلاصه، أو يحصّل أدواتها، كان في عجلة من أمره وهائماً في الدنيا وطلب معاشها، حتى وصل إلى أوكرانيا ولمسه الحب "خالصاً". كانت العيون تترصّده "خلال روايته الشرق الآخر"، وتكرهه من غير سبب. كان أسامة يحلم بالعشق والعطاء الذي حرم منه، ويدنو من أناسٍ أكثر عطاء من تلك القساوات التي كم عاناها في بلدته، والقاهرة خصوصاً، حتى عاد مطروداً، إلى عدن، ولم ينس جروحه، فكانت "الشرق الآخر" أول ردّ أدبي وإبداعي على خصومه، وهو الذي أجاد الردود كافة.
لم تلتفت القاهرة، واليسار خصوصاً، إلى تلك الرواية، لأنه كان يطاولهم بلسانه دائماً، فكيف تلتفت القاهرة إلى ما يكتب؟ تعدّدت هوايات أسامة ما بين التصوير والسينما "كانت له مادة جميلة عن تعذيب الأسرى المصريين في حروبنا مع إسرائيل مع الفنانة نادية لطفي، والتي كانت تعتبره ابنها الغاضب دائماً"، ومواد أخرى مصوّرة مع أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في حوش قدم والمقطّم. ولكن بسبب خصامه نجم ظلت المادة في حوزته حتى أخذها الورثة، علاوة على مواد مسجلة مع المرحوم أنور كامل عن "جماعة الخبز والحرية"، وكان أنور كامل آخرهم، وكعادة الفقراء دائماً، يلاحقهم الموت فرادى، وتذهب جهودهم سدى أو تختفي.