أبعد من "الجمهورية" المصرية
تشاطَر أهل القرار في مصر، عندما وجّهوا بإزالة مقالة رئيس تحرير صحيفة الجمهورية (القومية كما توصَف)، المراسل العسكري سابقا، عبد الرازق توفيق، من الموقع الإلكتروني للصحيفة. وبدا أن أورامهم عن أنفسهم تُجيز لهم هذا التذاكي على الآخرين، فيما بديهيّ البديهيّات أن الرصاصة بعد إطلاقها لا تعود. ولمّا كتب المذكور ما كتب من تطاولٍ عنصريٍّ مقيتٍ على دول الخليج، وكذب ما كذب في هذا، وتطاوَس بلغةٍ فوقيةٍ دلّت على صَغاره وسوء أخلاقه، فإنه، بصراحةٍ يُرجى أن لا تُزعِل أحدا، يؤشّر إلى ذهنيةٍ متوطّنةٍ في نخبةٍ مصريةٍ عريضة، تعمل في الميديا والثقافة وغيرهما، تستسهل تزجية الكلام كيفا اتُّفق على شاشات الفضائيات وفي الصحافة عموما، عن الشعوب العربية، بتبخيسٍ سخيف، وبتظهير مصر وشعبها وجيشها فوق جميع العرب، في تكبّر ليس فيه من الكبرياء المحمودة ولا من الاعتداد بالذات الطيّب الحسن، وإنما فيه إهانة أوطان العرب الأخرى وتاريخها وثقافتها، وغالبا بلغةٍ عالية الركاكة والبذاءة، يستغرب واحدُنا كيف يُسمَح بها في منابر إعلامية مقروءة ومرئية، فيما قوانين النشر، المصرية وغيرها، لا تجيز إثارة العنصريات وشتم الشعوب.
في البال أن مثقفين وكتّابا عربا عديدين (كاتب هذه السطور منهم) أشهروا بيانا، في صيف عام 2013، ضد خطاب كراهيةٍ شاع في حينه، بإسفافٍ مستنكَرٍ، في فضائياتٍ مصرية ضد الشعبين السوري والفلسطيني. وفي البال أيضا إن فضائيةً مصريةً أباحت لمذيعةٍ فيها أن تتحدّث بكلام شديد الإساءة للشعب المغربي، قبل أن تضطرّ اثنتاهما (الفضائية والمذيعة) للاعتذار عنه، وكذا فعلت الخارجية المصرية. وما زالت غير منسيةٍ مرجلات إبراهيم عيسى على الفلسطينيين بسبب مواقف عابرةٍ في حينها لفصائل فلسطينية من أداءٍ سياسي للنظام في مصر. وهو الذي لم ير حرجا في أن ينعت الفلسطينيين، في زعرنةٍ أخرى، بأن ثقافتهم إرهابية. أما الموقعة الإعلامية إياها مع الجزائر بعد مباراة كرة القدم في الخرطوم، في نوفمبر/ تشرين الأول 2009، فنقطةٌ سوداءُ في الإعلام المصري، من فرط ما ضجّ به من رداءةٍ عصيّةٍ على الوصف في التطاول والاستعلاء على الجزائريين. ولمّا قال الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، إياد مدني، في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، مُزحته عن ثلاجة عبد الفتاح السيسي، لقينا في صحف ومواقع مصريةٍ من يعيّر الرجل بسعوديّته و"بداوته".
إذن، كتابة المراسل العسكري سابقا، رئيس التحرير راهنا، عبد الرازق توفيق، عن "ضآلة" دولٍ تعاني من "الهشاشة البشرية والحضارية"، ليست شذوذا لغويا عند رجلٍ مفردٍ، تستبدّ به خُيلاء، وإنما موصولةٌ بأرشيفٍ طويل، في الوسع، لو أردنا شيئا من الأكاديمية، أن نأخذَه إلى زمني جمال عبد الناصر وأنور السادات، وهو لا ينتسبُ فقط إلى تقاليد ركيكةٍ في الإعلام العربي عموما، في ملاعب المناكفات والمزايدات والمشاحنات السياسية المعهودة، وإنما أيضا إلى خصوصيةٍ مقيمةٍ في أفهام حاكمين وأصحاب قرار وسلطةٍ في دوائر الإعلام والفعل السياسي في مصر، ليست ملحوظةً في إعلام أي بلدٍ عربي آخر، عنوانها التعالي على بقية العرب، فلئن حقّ لكل مواطنٍ مصريّ أن يعتزّ ببلدِه، وأن يفخر بما أعطت وقدّمت لأمتّها في غير شأنٍ وشأن، وبما ضحّت وأنفقت، وبما تتمايز به حضاريا وثقافيا ومعرفيا، فهذا لا حاجة أبدا لتعريف أيٍّ عربي به، في موريتانيا أو السودان أو الجزائر أو السعودية أو قطر أو ...، بغطرسةٍ مرذولة، فهو معلومٌ وبديهي، ومن الشنيع أن يُطرح، في وسائط الإعلام، في صيغ التمنّن والتعالم على الآخرين.
لم يسمّ المراسل العسكري السابق في صحيفة الجمهورية التي يتولّى رئاسة تحريرها البلدَ العربيَّ الذي يقصده في مقالته المُزاحة بعد توزيعها على غير موقع إلكتروني مقرّبٍ من الرئاسة والمخابرات المصريتين. لم يعيّن بالضبط "الحُفاة العُراة الذين ارتدوا أفخر الثياب مؤخّرا"، والذين "لا يجوز لهم التطاول على مصر زينة وأم الدنيا" (الأصحّ زينة الدنيا وأمّها). لكننا، من أهل الكار، لا نحتاج حصافةً خاصةً حتى نعرف المؤشَّرَ إليهم في هذا التلميح الخالي من النباهة. والأهم، قبل كل ما سبق وبعده، أن يعرف الزميل الشاطر ومن في منزلته أو أدنى منها أو أعلى، ومعلّموه ومسؤولوه أيضا، أن إتيان أي مثقفٍ أو كاتبٍ أو إعلاميٍّ عربيٍّ على راهن مصر الذي لا يسرّ الخاطر حقٌّ لنا جميعا، نحن العرب، رضي من رضي وزعل من زعل، فصلاح أحوال مصر وتراجعها أمران عربيان بداهةً وبالضرورة .. وليس في هذا ما يسيء لأم الدنيا وشعبها العظيم.