أبعاد "العدوان المضبوط"
لم تكن الأجواء في قطاع غزة توحي بأن هناك جولة تصعيد في الأفق، بل كان الكلام عن مفاوضات تهدئة بقيادة مصرية في مقابل تسهيلات اقتصادية للحكومة الفلسطينية في القطاع، إضافة إلى بحث في صفقة تبادل للأسرى بين "حماس" ودولة الاحتلال الإسرائيلي، مع وجود ثلاثة أسرى إسرائيليين، أحدهم من فلسطينيي الداخل، لدى الحركة الإسلامية. هذه الأجواء كانت قبل 72 ساعة من جولة التصعيد الحالية التي يشهدها القطاع، والعدوان الإسرائيلي الذي أعقب اغتيال القيادي في سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، تيسير الجعبري. فقبل هذا الاغتيال، كانت هناك زيارات متبادلة لوفود أمنية وسياسية بين المخابرات المصرية و"حماس"، وكان الحديث عن مقترحات واضحة للتهدئة والتسهيلات.
كل هذه الأجواء انهارت فجأة، ودخل قطاع غزة في موجة تصعيد جديدة بعد اغتيال الجعبري، وقبله اعتقال القيادي في "الجهاد الإسلامي" بالضفة الغربية، بسام السعدي، والذي كان فاتحة التوتر على حدود غزة، من دون أن يُنبئ بأن حرباً أو تصعيداً في طريقه إلى التنفيذ. لكن يبدو أن هناك حاجة، إسرائيلية بالدرجة الأولى، لهذا العدوان، في ظل الحالة السياسية الهشّة التي يعيشها الائتلاف الحاكم في دولة الاحتلال، والانتخابات المبكرة المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل بعد فقدان هذا الائتلاف غالبيته البرلمانية، وخسارته المرتقبة في استطلاعات الرأي، لمصلحة زعيم المعارضة، رئيس حزب الليكود، بنيامين نتنياهو.
ائتلاف يئير لبيد، رئيس الحكومة الحالي، ونفتالي بينت، وزير الخارجية الحالي، يسير على هدي كل الحكومات الإسرائيلية التي سبقته في مراحل أزماتها السياسية، فعلى مدى العقود الماضية، كان هرب الحكومات الإسرائيلية إلى التصعيد في جبهات متعدّدة يجري لصرف الأنظار عن أزماتها الداخلية أو إعادة شد العصب حول هذا الحزب أو ذاك. تصعيد كان يحصل أحيانا على جبهة لبنان أو في الضفة الغربية أو القدس المحتلة أو قطاع غزة. القطاع اليوم هو الوجهة المفضلة لهروبٍ كهذا، في ظل التكاليف الباهظة الممكنة لأي تصعيد على الجبهة الشمالية، ومع غياب أي طرفٍ جاهزٍ للمواجهة في الضفة الغربية.
اللافت في هذا العدوان الجديد هو الحرص الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى على محدوديته وعدم توسيعه، سواء عبر التصريحات الواضحة في هذا المجال، أو عبر الأهداف التي يختارها الاحتلال. وفي مقدمة هذه الإشارات حصر المواجهة مع حركة الجهاد الإسلامي، وليس مع الفصائل الفلسطينية كافة في قطاع غزة، وهو ما نجح فيه الاحتلال حتى الآن، فهناك سعي حثيث من الحكومة الإسرائيلية إلى تحييد حركة حماس عن هذه المواجهة، وتركيز الاستهداف على مقار وقواعد لحركة الجهاد الإسلامي. الغريب أن هذا التحييد تعامله "حماس" بالمثل، فحتى اللحظة لم تنخرط في المواجهة، ولم تعلن الحركة عن مشاركتها في إطلاق زخّات الصواريخ على دولة الاحتلال رداً على قصف قطاع غزة. ومن الواضح أن الحركة، وحكومتها الحاكمة في قطاع غزة، غير معنية بتصعيد المواجهة، تاركة المجال أمام جهود الوساطة للتهدئة التي تقودها مصر ودخلت قطر على خطّها، وما يمكن أن ينتج عنها من تهدئة مصحوبة بالتسهيلات الاقتصادية التي كان يجري الحديث عنها قبل بداية العدوان. "حماس"، حتى الآن أيضاً، تكتفي بالتعاطي مع الوضع في قطاع غزة مثل تعاطي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، عبر الإدانة وإعلان التضامن مع حركة الجهاد، من دون الدخول مباشرة في المعركة، وهو ما يمكن أن يحدُث في أي لحظة، تبعاً لمسار مفاوضات التهدئة ونتائجها.
العدوان على قطاع غزة اليوم هو حاجة أساسية للائتلاف الحاكم في إسرائيل، الحريص ألا تخرج الأمور عن سياقها المضبوط، وهو ما يمكن أن تستفيد منه فصائل المقاومة، وفي مقدمتها "حماس"، لتحسين شروط التفاوض على اتفاقٍ لا يقتصر على التهدئة.