آني إرنو... نوبل والسيرة الذاتية أدباً
أمّا أن القول إن جائزة نوبل للآداب، في واحدٍ من وجوهها، تعبيرٌ عن مركزيةٍ أوروبية، معزوفةٌ عربيةٌ عالمثالثيةٌ رتيبة، فذلك لا يعني أبدا أنه قولٌ غير صحيح، وقد جاء منحُها للعام الحالي (2022) أمس للفرنسية آني إرنو (82 عاما) دليلا مضافا على صحّة هذا الزعم، زعمِنا نحن العرب والأفارقة والآسيويون (الهنود والصينيون مثلا) و...، فقد صارت صاحبة "الخزائن الفارغة" (روايتها الأولى، 1974) صاحبة الرقم 96 من الكتّاب الغربيين (الأوروبيين والأميركيين) من بين 119 أديبا فاز بالجائزة العتيدة منذ أول مواسمها في العام 1901، بل هي أيضا صاحبة الرقم 16 من الفرنسيين (المرأة الأولى منهم) الذين مُنحوها (بينهم سارتر الذي رفضها في 1964). ولا صلة، بداهةً، لهذا الأمر بأي تقييمٍ لمنتوج آني إرنو يقرّظ منزلته الجمالية والإبداعية، أو لا يقرّظهما، فيراه مستحقّا الجائزة الكونية التي يخضع منحُها لهذا أو ذاك، لتلك أو لهذه، لمزاج أعضاء الأكاديمية السويدية، أو لا يستحقّها. وفي البال إن اسم الكاتبة كان مطروحا من بين مرشّحين لنيْل الجائزة، وهي تُحرز قسطا طيّبا من الشهرة في العالم، ومعروفةٌ بين القرّاء العرب، فلها ثمانيةُ أعمالٍ روائيةٍ وسرديةٍ منقولةٌ إلى العربية، منها روايتُها "الاحتلال" التي أصدرتها العام 2002 (ترجمة إسكندر حبش، دار الجمل، بيروت، 2011)، وليس منها كتابُها، الأشهر فيما يبدو، وجاء عليه بيان الأكاديمية السويدية الذي "سوّغ" تكريم صاحبِته بالجائزة، "السنوات" (2008)، بأنه أكثر مشاريع آني إرنو "طموحا".
عربيا، نستقبل اسم آني إرنو، ونحنُ على مقادير طيّبةٍ من إعجاب من قرأوها، منا، بالفرنسية، ومترجمة. ونستقبله أيضا باحترام، فقد كانت من عشرات الكتّاب (والفنانين والأكاديميين والحقوقيين والسينمائيين) الفرنسيين الذين وقّعوا، في مايو/ أيار 2018، على رسالةٍ شجاعةٍ وبالغة الأهمية، إلى الرئيس ماكرون، وطالبوا فيه بإلغاء موسم "إسرائيل – فرنسا" الثقافي الفني الذي انتظم لاحقا، واستمرّ شهورا، ونعتوا إسرائيل بأنها "نظام استعماري يضرب عرض الحائط كل المواثيق الدولية التي وقّعت عليها فرنسا". وفي الوُسع هنا أن يفتح واحدُنا قوسا، أن تلك الأزعومة عن مهادنة الأكاديمية السويدية إسرائيل ليست في محلّها أبدا، فقد نال "نوبل للآداب" كتّابٌ على غير الهوى الإسرائيلي، منهم صاحبة "شغف بسيط" أمس، وحائز الجائزة العام الماضي (2021)، المسلم التنزاني ذو الأرومة الحضرمية اليمنية عبد الرزاق قرنح، الذي زار فلسطين وانتصر لأهلها في نشاطٍ ثقافيّ فيها، والذي، على غير آني إرنو، لم تكن أيٌّ من رواياتِه مترجمةً إلى العربية لمّا أشهروا، في استوكهولم، اسمَه في "نادي نوبل".
نشر الزملاء في "ضفّة ثالثة" (6/12/2020) مقابلةً مع آني إرنو، مترجمةً عن صحيفةٍ بلجيكية، تتحدّث فيه عن ضيقها من إلحاح قرّائها النّقاد بتصنيف كتبها ضمن السيرة الذاتية، والأدب الذي يفيد من التذكّر والشخصي، والمذكّرات أحيانا، وأدب "التخييل الذاتي"، غير أن الأكاديمية السويدية تذكُر في بيانها أن الكاتبة فازت بالجائزة "لشجاعتها ورهافة حسّها المفرطة في كشف جذور الذاكرة الشخصية وانفصالها والقيود الجماعية عليها". والمعنى هنا واضح، ويتفق مع الذائع عن أدب السيدة الثمانينية، إنها لا تُغادر ذاكرتها عندما تكتُب. ما صادفته في حياتها هو النسغُ الأساسُ في أدبها، غير أنها حاولت، في إجابتها عن أسئلة محاوِرها، أن تنزع عن أدبها حشرَه في بئر الذات الخاصّة، وتُزيحه إلى المجموع العام، فقصّتها التي تحكي عنها هي قصّة الآخرين أيضا، على ما تقول. وتردّ على سؤالٍ، بشأن كتابها "مذكّرات فتاة" الذي يبدو سردا أكثر منه سيرةُ ذاتية، وإنْ مبنيٌّ على تجربةٍ شخصيةٍ ووقائع خاصّة، بأنها عندما تستند كتُبها إلى ذكرياتَها وتجاربها الخاصة، فإن "العالم سيأتي دائما تلقائيا، لأنني عندما أنظُر إلى نفسي، أرى شخصا ترتبط فرديّته ارتباطا وثيقا بالأحداث والأماكن والأشخاص".
ليس الذي أفضت به صاحبة جائزة نوبل، المستحقّة لها على ما يرى قارِئها صدُيقنا صبحي حديدي، خاصّا بها، فليس من كاتب أدبٍ ذهب إلى سيرتِه أو أطوارٍ منها (عدّة روايات لآني إرنو عن تجارب مقتطعةٍ من سيرتها) بسَطَها كما هي، إلا إذا فعل هذا في مذكّراتٍ ويوميات، فيأتي بالمتخيّل والعام ويطوف في التاريخ وفضاءات الأزمنة والأمكنة. من لم يتميّز في هذا لا يستحقّ التنويه والتأشير إلى جدارة مُنجَزه، ومن أصاب فرادةً وعلوّا في هذا استحقّ التكريم.. بجائزة نوبل هذه المرّة.