"متون وهوامش"... انطباعات أولية

31 أكتوبر 2022
+ الخط -

بلغ مستوى إنتاج البرامج الثقافية الجادة، في معظم قنوات التلفزة الفضائية العربية، في السنوات الأخيرة، حدّه الأدنى، ولم يعد القائمون على هذه المحطات يتحمّسون لإنتاج هذه النوعية المتخصّصة، ما يعود، على الأغلب، إلى ضعف الإقبال الجماهيري، قياسا على نسبة الإقبال على البرامج السياسية أو الرياضية أو ذات الطابع الفني، أو حتى برامج الطهي التي تحقق نسب مشاهدات مرتفعة. من هنا، نفرح لمبادرة إدارة تلفزيون "العربي 2"، إيلاء الجانب الثقافي أهمية كبرى، وهذه خطوة تُحسَب لها، وتؤكّد على سعي القناة إلى التميز والاختلاف، في عملها الجادّ على بث التوعية وتطوير ذائقة المتلقي وتعميق معرفته. ولعل برنامج "متون وهوامش" الجديد واللافت (إعداد معن البياري، منتج منفّذ فادي عزام، تقديم آلاء كراجه) خير مثال على هذا التوجّه. وقد تمكّن فريق العمل من إدارة الحلقات برشاقة وبراعة وفنية عالية، متخطّياً شبهة الرتابة والنمطية والجمود التي غالبا ما تتصف بها البرامج الثقافية. وقد ساهمت التقارير المسجّلة التي تخلّلت الحوارات مع الضيوف في إضفاء الحيوية والتجديد على البرنامج النوعي. وبرع الإعداد في تقديم المادّة بشكل مكثف عميق، يغطي جوانب العنوان موضوع البحث. كما نجحت آلاء كراجه، في إدارة الحوار بذكاء وسرعة بديهة، ما يبشّر بصعود وجه إعلامي نسائي واعد. 
يستضيف "متون وهوامش" أسماء ثقافية لامعة لها وزنها، ويتناول قضايا الثقافة والفكر والإبداع، ويتطرّق إلى عناوين ثقافية إشكالية متنوعة، يجري نقاشها بأسلوب حضاري هادئ ورصين، يحترم المشاهد المتابع، ويلبّي حاجة المهتمين والمشتغلين في الأوساط الثقافية لفضاء ثقافي حرّ، يعبّر عن تطلعاتهم في نهضة ثقافية باتت مطلوبة. وسوف يلاحظ المتابع للحلقات الخمس الأولى من البرنامج الجهد الكبير الذي يبذله القائمون عليه من أجل نشر الثقافة الملتزمة، وتوعية الجيل الجديد بالمنجز الفكري والإبداعي للكتّاب العرب، وكذلك التصدّي لهمومهم وطرح الأفكار بشأن قضاياهم الشائكة، من تفشّي ظواهر الرداءة والادّعاء والاستسهال التي أصبحت ملامح فارقة للمشهد الثقافي الملتبس، بما يمكن اعتبار البرنامج إنعاشا وتجديدا للمشهد الثقافي العربي الراكد، وبثّ الحياة فيه، لتمكين المثقف من أداء دوره الطليعي المفترض. وليس سراً أن معظم الحكومات العربية تضع الشأن الثقافي في آخر سلّم أولوياتها، ما يؤكد أهمية الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في تصويب المسار الذي حاد عن طريق الصواب.
في استعراض عناوين حلقات "متون وهوامش" التي شوهدت على شاشة "العربي 2"، نخلص إلى أننا بصدد محتوى جاد ورصين وممتع في الآن ذاته. كان عنوان الحلقة الأولى "الفلسفة بين الضرورة والاختيار"، حيث أجمع المشاركون من ثلاث دول عربية على ضرورة تدريس الفلسفة في الجامعات والمدارس، سعيا إلى تنوير العقول الشابة، وتحريضها على البحث والشك وطرح الأسئلة. وفي الحلقة عن العلاقة الإشكالية بين الناشر والكاتب العربيين، كان من الأفضل مشاركة ممثل عن اتحاد الناشرين العرب، ليقدّم صورة أكثر شمولية عن سوق صناعة الكتب والتحدّيات التي تواجه هذه الصناعة. أما الحلقة عن "العرب وجائزة نوبل للآداب" فقد طرحت الأسئلة المشروعة بشأن المركزية الأوروبية للجائزة، وغياب الكتّاب العرب عنها. وبحثت الحلقة عن اتحاد الكتّاب والأدباء العرب وزيارة ممثلين عنه دمشق واقع هذا الاتحاد في الظروف السياسية الراهنة. ولاحظ المشاهدون المنطق التبريري غير المقنع لزوّار حاكم دمشق. وتناولت حلقة أخرى سؤالا بشأن الرواية العربية في لحظتها الراهنة، ما إذا كانت إنجازا أدبيا أم استسهالا رائجا بالنظر إلى الطفرة.
بالنتيجة، يمكن القول إن "متون وهوامش" بارقة أمل جديدة في حياتنا الثقافية. ما زال في جعبته الكثير مما سوف يعالج ويغطي محاور وعناوين كثيرة مسكوتاً عنها. تحية كبيرة هنا إلى الزملاء العاملين على هذا البرنامج، ودعوة إلى المهتمين لمتابعة حلقاته المتميزة المتنوّعة التي تحقق المتعة وتعمق المعرفة، وتؤكّد على دور الثقافة والفكر والفن والإبداع في صياغة شكل الغد العربي الذي نطمح إليه مُشرقا مضيئا، متخفّفاً من حمولات الجهل والتخلف والظلامية وضيق الأفق.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.