"كما لا يحب أبي أن يراني" .. قصص التمرّد
تعلن القاصة الأردنية، رانية الجعبري، في مجموعتها الثالثة "كما لا يحب أبي أن يراني" (دار نلسن، بيروت، 2020)، ثورتها على كل شيء، وتطرح نفسها صوتا قصصيا أنثويا حادّا يمزق الحجب عن المسكوت عنه في مجتمعاتنا العربية. تهدي مجموعتها المتميزة إلى القهر والغربة والدمع والخيبة التي داستهم، في نهاية الأمر، وأكملت دربها قاصّة متمكّنة من أدواتها واضحة مباشرة شجاعة، وهي الصحافية المثابرة الملتزمة بقضايا المرأة المهتمة بقضايا المنطقة السياسية، العاملة في مجال الترجمة إلى العبرية، المعدّة والمحرّرة لكتابي "الحياة أولا ثم الفلسفة" و"روائع طاغور". صدرت لها مجموعتان قصصيتان "حكاوي بنت" و"يحدُث تحت سماء تشرين". ويمكن القول إن تجربة رانية القصصية دخلت مرحلة النضج في مجموعتها الثالثة. بدأت المجموعة بتمهيد بعنوان "تنويه لا بد منه"، يوضح أن المقصود بالأب في المجموعة السلطة الأبوية والهيمنة البطريركية الذكورية التي امتدت عبر تاريخ من القهر والاضطهاد عانت منه المرأة. وتتكئ الجعبري على أسطورة الإلهة الأنثى تعامة التي توارت واندحرت، في إدانة لسطوة كبير الآلهة مردوخ وتسلطه، وهو الذي تقول إنه يمحو ملامح جسدها بثياب التطرّف المقدس، لكنه أعجز من أن يتسلل إلى روحها ووسادتها وأحلامها.
تدخل بنا رانية الجعبري، في "صندوق البهجة"، أولى قصص المجموعة، إلى عوالم الأنثى وهي تتهيأ للقاء الحبيب، راضخة لتوقعات مفروضة على الأنوثة ترفضها بدون إجراء تعديلاتٍ على مظهرها، كي تنال القبول الذي يفرض عليها التخلص من زوائد الشعر والجلد والأظافر، لتعود منكسرة حزينة من فرط الخيبة. قصة لمّاحة ذكية وضعت القارئ في قلب الحدث، من خلال حوار هامس بين صناديق مكدّسة في حمام امرأة خذلها الحب، ورأفت بحالها الأشياء الجامدة، حين ماتت لحظة البهجة العابرة. وفي قصة "المسمار"، تواصل الأشياء سرد الحكايات. تتوالى المشاهد لشخصياتٍ تهبط وتصعد درجا طويلا تعبره نماذج مختلفة من المارّة، أمّ وابنتها في حوار عن الحجاب، رجل وامرأته في لحظة حب خاطفة، صديقتان تتحايلان على قوانين المجتمع الصارمة التي تتحكّم في طريقة لباسهما. وفي قصة "حضن السراميك"، تتبدّى صورة المرأة المتوحدة، المتشبثة بمفردات عالمها الخاص الحميم، المعرّض للدمار، لأن العائلة قرّرت تجديد الحمام (مخزن ذاكرتها الأثير، وكأنها لا تصادف روحها إلا هناك، في صمته تنتظم كل أسرارها وأوجاعها ودموعها).
في قصة "تتخيّر قرآنها"، وبأقل الكلمات وأكثرها حيادية وبراءة، ومن دون حاجة إلى تبريرٍ، يسرد قرط معدني معلق على أنف المرأة حالاتها وتفاصيل القهر والبهجة واللذة والغيرة والغضب والرفض التي تعيشها، لنقف على شخصية امرأة مرهفة الحساسية، غارقة في الحزن، مسكونة بالغضب، لا تملك سوى الاحتجاج بصمت، تخنق رغبتها في الانفلات من عبء المكرّس والمسلم به. وفي "ملقط حواجب"، يتجلّى التمرّد في روح المرأة التي صودرت رغباتها وإرادتها وإحساسها بذاتها حين تقوم تزجّج حاجبيها، لتحسّ، للمرّة الأولى، بالرغبة في الحياة وفي الحب. في "ليست طلاسم"، نلتقي بالمرأة التي اتخذت قرار الانفصال عن واقعٍ قاسٍ فُرض عليها، لتفرض واقعها هي كما تحبّه، وليس كما يُملى عليها من السلطة الأبوية الجائرة.
"كما لا يحب أبي أن يراني" مجموعة قصصية شديدة التميز تحاكي هموم المرأة وغيظها وإحباطها، وقد توارت خلف مجموعة أشياء، بثّت فيها الروح، أنسنتها وحمّلتها وزر الخطاب المتمرّد، خاتم، فردة حذاء، مسمار، كي تبوح بكل شيء، وتتخفف من قهر سنين طويلة، تعبّر عن شريحة كبيرة من نساء عربيات اضطررن للرضوخ لمفاهيم جائرة، كادت أن تجهز على أرواحهن، لولا شعلة التمرّد التي مهدت الطريق أمامهن نحو حريةٍ مشتهاة، ليس لها حدود.