"قرنقاشوه" هبة رمضان للطفولة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
"قرنقاشوه" لعبةٌ طفوليةٌ تختصّ بها عُمان، مع وجود احتفالاتٍ مشابهةٍ لها في أوطانٍ عربيةٍ عدة، لكن بمسميات مختلفة. هذا الاحتفال الذي يندرج ضمن احتفالات الزمن هو في العمق فرحة طفولية ترتبط بالشهر الفضيل، وتأتي مذكّرةً الصائمين بأنّ نصفه قد انقضى. وكأنّما يأتي التذكير هذه المرّة من الأطفال، وذلك عبر أغنية تدور بين البيوت، وعبارات ذات طبيعة ندائية فرحة، تبدأ بدعوة عامة "قرنقاشوه يا يا ناس. أعطونا شوية حلواه"، أي أيها الناس إنها ساعة القرنقاشوه، فاعطونا ولو قليلاً من الحلوى المخبأة في مناديسكم وسحاراتكم. عادة زمنية تعود إلى مئات السنين، وقد تعاقبت عليها الأجيال، إذ يستعدّ لها الأهالي بشراء كميات الحلوى ومأكولات الأطفال في توثبٍ لاستقبال صوت الطارق المرح، الذي لا يقصد من مجيئه طلب الطعام، إنما اللعب الجماعي وإحياء عادة عريقة، يحرص عليها الآباء قبل الصغار في بعض مناطق عُمان. ومسرح هذا الاحتفال في العادة حاراتٌ يعرف أهلها بعضهم بعضاً، كما حدث في حارات ولاية السيب، حيث إنه، هذه المرّة، بسبب كثافة المشاركة، كما أخبرني أصدقاء، اضطرّ بعضهم للذهاب إلى الدكّان القريب عدة مرّات، لأنّ عدد الأطفال زاد عن حسبتهم، خصوصاً بعد جائحة كورونا التي فرضت حجراً على مختلف الزيارات والتجمّعات بما فيها تجمّعات الأطفال.
وبتفكيك النشيد وكلماته الطفولية، نكتشف أن كلمة "قرنقاشوه" تعود في معناها، في الأصل، إلى دقّ حصاتين بعضهما ببعض. وهذا كان يحدُث مع الأجيال التي كانت قبلنا، إذ كان صوت الحصى يصدُر مصحوباً بالغناء، وهم يتقدّمون ناحية بيوت الحارة مع كلمات النشيد. ومع تقدّم الأجيال، اندمغت كلمات الأغنية وتموسقت وزادت عن حاجة معناها الزهدي المحدّد، وهو "شوية حلواه" وأضيفت إليها تفعيلات وكلمات شعبية وميثولوجية مع تقدّم الزمن وتعاقب الأجيال. و"شوية حلواه"، في فعلها العملي، تعود كذلك إلى الجيل السابق، إذ إنّهم، كما حدث عند أجدادنا المباشرين مثلاً، كانوا يجمعون قصعاً من الحلوى في أظرف سعفية صغيرة. ولذلك تكون "شوية حلواه" لا تساوي أكثر من لقمة لكلّ طفل. أما الآن، فلكلّ زمن حلواه، من البسكويتات والسكاكر وغيرهما.
يوجد في النشيد الطفولي كذلك عبارة "دوس دوس في المندوس" وهي سجعية إيقاعية، ترفد الكلمة الهدف "المندوس" الوعاء الذي كانت تُخبأ فيه الحلوى أيام الأجداد. وكذلك العبارة الرديفة "حاره حاره في السحاره" التي مغزاها الماكر لا يقصد به سوى ما يختبئ في تلك السحّارة، التي تشبه المندوس، وهي بمثابة الدولاب في عصرنا الحالي. وكأنما الأطفال، بلمزات أغنيتهم المرحة، هذه يوحون، من دون أن يصرّحوا، للكبار، بأن يفتحوا مناديسهم وسحّاراتهم ليخرجو منها الحلوى التي خبأوا.
عندما تخرج هذه الكلمات من أفواه الأطفال، فإنها تكتسب فرحاً مضاعفاً. وقد جلبت عادة القرنقاشوه معها عادات أخرى تدخل في حيز الإحسان، مثل ما حدث مع فرقة ولاية نخل للمسرح في أيام اشتداد جائحة كورونا، وذلك بالتعاون مع فريق نخل التطوعي، حين ابتكرت مبادرة خيرية تمثلت في توزيع هدايا على مائة طفل يتيم، بإيصالها إلى منازلهم في الولاية، مع "الحرص الشديد من القائمين على المبادرة باتباع كافة الإجراءات الصحية الوقائية المناسبة"، كما جاء في حيثيات الإعلان.
من المهم أن تجد مثل هذه العادات الراسخة الرعاية من مختلف مؤسسات الدولة، وهي تراثٌ لامادي عريق، يمكنه أن يندثر بسبب طبيعة عزلة السكان في مساكنهم الجديدة، بعد تحوّلهم من قراهم إلى مساكن عصرية، ولكنها مغلقة عن محيطها العام. تُستثنى هنا تلك الأحياء التقليدية التي ما زالت البيوت فيها متقاربة، ويكاد كل بيت أن يكون مفتوحا على الآخر بكل ألفة وبساطة، كما هو الحال مثلاً مع حارات ولايات الباطنة، ومع حارة ولاية السيب البحرية في محافظة مسقط، وهو الأمر الذي يجعل من هذه العادة مبعثاً ودافعاً على الاستمرار، وبالتالي مناسبة منتظرة لتجديد الفرح الطفولي... وكلّ رمضان وأنتم بخير.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية