"عاش يا كابتن": تحية لبطلات مصر
تبدأ مفارقات فيلم "عاش يا كابتن" من عنوانه، حيث يحمل العبارة المتعارَف عليها بالأوساط الشعبية المصرية لتحية الذكور لبعضهم داخل صالات التدريبات الرياضية، بينما يوثّق الفيلم رحلة فتيات يمارسن رياضة رفع الأثقال.
يحفظ المصريون جيدا اسم نهلة رمضان، التي حصلت عام 2003 على لقب بطلة العالم في رفع الأثقال في سن 15 عاما، ثم تتابعت ميدالياتها وألقابها الأفريقية والعالمية. لكننا في الفيلم نكتشف للمرّة الأولى المصنع الذي أنتج نهلة: والدها رمضان، فقط! لا يمكن للمشاهد إلا أن يُصدم من الحال بالغة التواضع التي تظهر بها كل تفصيلة في مكان تدريب الفتيات، وهو واقعيا مجرّد قطعة أرض خلاء، يحيطها سورٌ معدنيٌّ لا يفصلها عن بحر الشارع. وبالتالي، تجري التدريبات على وقع عوادم السيارات ونباح الكلاب وفضول المارّة.
يحصل المدرّب الثمانيني رمضان على الأثقال والأدوات الرياضية عبر باعة "الخردة"، حيث يحاول المساومة إلى أدنى سعر. تغذية اللاعبين التي يُفترض أنها تخصّص بالغ التعقيد والكلفة تنتهي أمامنا إلى خبز بلدي محشوّ بالجبن. أما وسيلة انتقال اللاعبات إلى البطولات فقد كانت التكدّس داخل "مكروباص"، وسيلة الانتقال الشعبية في مصر.
وعلى الرغم من تذمّر الكابتن رمضان المتكرّر من نقص الإمكانات، وترديده أنه يصنع أبطالاً بكلفة ملاليم، إلا أنه بشكل دائم يحرص على تثبيت لافتة لشكر السيد اللواء فلان رئيس الحي والسيد فلان محافظ الإسكندرية، وهي الأسماء التي تتغيّر مع امتداد تصوير الفيلم الذي استغرق أربع سنوات.
برع الفيلم في نقل الواقع بكل ما يحمله من تناقضات وتعقيدات، فالكابتن رمضان يمكن أن يسبّ اللاعبات بألفاظ حادّة، وهذا لا يغير من الود بينهم، وكانت المتدرّبة الأكثر انهيارا بعد وفاته هي تحديدا من نالها النصيب الأكبر من تعنيفه. لكن التناقض الأبرز كان تثبيت هذا الواقع نفسه: فتيات من مناطق شعبية محافظة يتدرّبن على حمل الأثقال، وعلى يد مدرّب ذكر، في تدريباتٍ لا تخلو من التلامس أو المعانقة عند الفوز.
نشاهد في الفيلم كيف يفرض الكابتن رمضان الاعتراف به وبفتياته. يلقّن المتدرّبات ردودا مفحمة حادّة، مستعرضا شواهد تمتد من إنفاق السيدة خديجة على الرسول، وحتى تعلّم الراقصة تحية كاريوكا الرقص على يد معلم ذكر. والخلاصة أن الرجل قد يرقص، والفتاة قد ترفع الأثقال، .. من دون تنظير، وبلغةٍ شعبيةٍ نسمع خطابا نسوياً بالغ التقدّمية بقضية رفض تقسيم الأدوار الجندرية.
وفضلا عن ردوده، فالعامل الأهم هو شرعية الإنجاز. يكرّر بإلحاح ما حصدته بطلاته "عندنا 4 أوليمبي و6 أبطال عالم و16 بطولة أفريقيا". لقد فرض نجاح الفتيات احترام ما يفعلن أيا كان، خصوصا وأن المصريين مسحورون دائماً برونق الإنجازات العالمية، حتى لو لم تنعكس مكسبا ماديا مباشرا. كأنها صفقةٌ بأن ثمن دعم الأسرة للفتيات في اختياراتهن هو أن يحققن نجاحا باهراً، لا مجرّد ممارسة هواية.
لعل هذه الخلفيات تضيء جانباً من سبب أن يكون نصف حصاد مصر من الميداليات الأولمبية في دورة طوكيو أخيرا قد تحقق على يد فتياتٍ في ألعاب قتالية، في مقدمتهن فريال أشرف، حائزة الذهبية في الكاراتيه.
ظهر لاحقاً أن فريال كانت تتدرّب في مركز شباب حي المرج بالقاهرة، حيث تعيش مع أسرتها في حي إمبابة الشعبي. يعرف المصريون جيدا مدى محدودية إمكانات هذه المراكز الحكومية، وعلى الرغم من ذلك، حققت أكبر إنجاز رياضي من نوعه منذ عقود. وفي الوقت نفسه، حافظت فريال على مستوى دراسي أهلها للنجاح في كلية الصيدلة في الجامعة البريطانية، والتي دخلتها بمنحة تفوق مجانية.
وعلى الرغم من غثاء نقاشات ثارت على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن حجاب الفتيات، أو السفر من دون محرم، أو عناق المدرّب وغيرها، إلا أن الواقع أن أهالي حي فريال احتفلوا بها في شارعها احتفال الأبطال، وأن الجميع نسب الفضل لفريال وأسرتها من دون أن يسرقه غيرهم. خطوة أخرى إلى الأمام في مسار طويل، تؤكد فيه فتيات مصر يوميا أن الحقوق لا توهب، بل تُنتزع انتزاعا.