"الرجل الأميركي المريض"
يؤكد المشهد السياسي العالمي حالياً أن الإمبراطورية الأميركية تشهد مرحلة الأفول، وأنها اليوم في وضعٍ مماثلٍ لما كانت عليه الإمبراطورية العثمانية بداية القرن العشرين، والتي أطلق عليها في ذلك الحين مسمّى "الرجل المريض"، في إشارة إلى العجز عن السيطرة على الأوضاع في المناطق التي كانت تحكمها. وعلى الرغم من أن الوضع الأميركي مختلف قليلاً عن الحال العثماني، لجهة الحكم المباشر لمساحات شاسعة وأعراق وإثنيات مختلفة، إلا أنه مشابهٌ من ناحية النفوذ الذي كانت تحظى به الولايات المتحدة في كثير من بقاع العالم، والذي بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً على حساب صعود قوى جديدة، يبدو أن واشنطن غير قادرةٍ على التعامل معها كما كانت تفعل في السابق.
الأزمة الأوكرانية اليوم، والتي تهدّد بإشعال أوروبا في حال صدقت التوقعات باقتراب الغزو الروسي، أكبر مثال على الحال الذي وصلت إليه الولايات المتحدة، لكنها ليست الوحيدة، فمسار انحدار النفوذ الأميركي بدأ قبل سنوات، غير أنه يمكن القول إنه وصل إلى ذروته اليوم، والوضع الأوكراني يمثل أهم اختبار لهذا النفوذ، فإما تكريس وضع "الرجل المريض"، أو محاولة إعادة بناء الإمبراطورية ودور "شرطي العالم".
لكن مما نراه اليوم على الساحة الدولية، ومع وجود جو بايدن في سدة الرئاسة الأميركية، لا يبدو أن الطريق سيكون سهلاً لإعادة الاعتبار للدور الأميركي في العالم، ولا سيما أن سيد البيت الأبيض اليوم يسير وفق النهج ذاته الذي دشّنه الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، لجهة الانكفاء إلى الداخل، وترك المساحات مفتوحةً لصعود قوى عالمية جديدة، وهو ما استغلته روسيا على أكمل وجه، وها هي اليوم تقارع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتطرق أبواب أوروبا الغربية عسكرياً، الأمر الذي كان مستحيلاً قبل سنوات قليلة، وحتى ربما في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
هذا الاستغلال الروسي لم يأت بين ليلة وضحاها، وهو ما كانت تراه الولايات المتحدة والدول الغربية، فموسكو سبق لها أن اختبرت قدرة الغرب على المواجهة في عام 2008 حين اندلعت حرب أوسيتيا الجنوبية رداً على الغزو الجورجي لهذه الجمهورية الانفصالية التي كانت تدور في فلك موسكو. حينها لم يهب الغرب لنجدة جورجيا رغم المناشدات التي أطلقها الرئيس الجورجي في ذلك الحين ميخائيل سكاشفيلي. وانتهت الحرب سريعاً باحتلال روسيا لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والاعتراف بهما من قبل موسكو جمهوريتين مستقلتين عن جورجيا، وهو الأمر الذي ما زال قائماً حتى الآن.
ما بين 2008 واليوم، راكمت موسكو المزيد من القوة، في ظل إدراكها العجز الأميركي المستجد، أو عدم الرغبة في خوض حروب جديدة، وهي الاستراتيجية التي أعلنها باراك أوباما بعد قراره الانسحاب من العراق وأفغانستان، وهو القرار الذي طبّقه بايدن اليوم. وخلال هذه الفترة، وسّعت موسكو نفوذها السياسي والعسكري، وعملت على تطوير قوتها العسكرية، وهو ما اختبرته بشكل مباشر في سورية أمام أنظار الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
والأزمة الكبرى اليوم تكمن في أن هذا الفراغ الذي خلّفه الانكفاء الأميركي لم تلجأ أي من الدول الغربية الأخرى إلى ملئه، وخصوصاً أن مرحلة صعود الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، همّشت غالبية القوى الغربية الحليفة، والتي سلّمت بنفوذ الإمبراطورية الجديدة، وها هي اليوم تدفع ثمن ضعف هذه الإمبراطورية، وهي ترى القوات الروسية على أعتاب أوروبا الغربية في ظل عجز عن صدّها أو تأمين الحماية الموعودة لأوكرانيا.
"الرجل الأميركي المريض"، ومعه سائر الدول الغربية الحليفة، أمام امتحان جدّي من الصعب عبوره بنجاح في ظل معطيات وموازين القوى الجديدة.