"أميرة" وتصاعد الإقصاء
انتعشت في الآونة الأخيرة، عربياً، فكرة منع الأفلام والمسلسلات التي ترى جموع من الناشطين الاجتماعيين، وأحياناً بعض الحكومات، أنها تتعارض مع الذوق العام السائد في المجتمع. جديد محاولات المنع هذه مع فيلم "أميرة"، والذي عرض في أكثر من مهرجان، عربي وأجنبي، قبل أن يُعرض في مهرجان "كرامة لأفلام حقوق الإنسان" في عمّان، ويثير جدلاً لم يتوقف، ما أدّى إلى إيقاف عرضه، وحتى سحبه من ترشيحات جوائز الأوسكار العالمية.
لم أشاهد الفيلم، على الرغم من محاولات البحث في الشبكة العنكبوتية للوصول إلى نسخة منه أو حتى مقتطفات، وهو أمرٌ ليس حكراً علي، فحتى العديد ممن يهاجمون الفيلم لم يشاهدوه، خصوصاً أنه لم يُعرض إلا في مهرجانات، ولم يخرج إلى الجمهور، بل اكتفوا بقراءة بعض الآراء التي تناولته. وكغيري، قرأت ملخص القصة التي تتناول قضية تهريب نطف الأسرى في السجون الإسرائيلية في محاولةٍ نضاليةٍ من هؤلاء المعتقلين للاستمرار وتحدّي السجّان. في الفيلم تكون الفتاة أميرة نتاج واحدةٍ من هذه النطف، قبل أن تكتشف أن المحتل، المتمثل بأحد عناصر الأمن في المعتقل الإسرائيلي، قام بتبديل نطفة الأسير بأخرى منه، لتكون الفتاة ابنة هذا العنصر.
حتى الآن، لم أر سبباً لهذه الحملة على الفيلم ومخرجه وممثليه، ولم أشعر بأي تقليلٍ من أهمية نضالات الأسرى أو تسخيفٍ ضمنيّ لفكرة تهريب النطف من السجون الإسرائيلية، أو التشكيك فيها. بل على العكس، يمكن النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، وهو الدأب الإسرائيلي على تدمير كل المحاولات الفلسطينية للحياة أو للاستمرار على هذه الأرض المحتلة، غير أن كل الأفعال الإسرائيلية هذه، حتى إن كانت عبر تغيير الأنساب (بحسب فكرة الفيلم)، لن تؤدّي إلى طمس عدالة القضية الفلسطينية، وهو ما تظهره نهاية الفيلم (بحسب القراءة عنه)، عندما تختار الفتاة الانتماء إلى هذه القضية والدفاع عنها.
لا ندري إن كانت هناك مشاهدُ أو حواراتٌ في الفيلم أدّت إلى هذا الغضب غير المسبوق، غير أن الفكرة العامة المطروحة أمام الجمهور لا تستوجب مثل هذا الغضب، وخصوصاً المنع، ولا سيما أن الحديث هو عن عمل إبداعي، وعادة ما تكون هناك مساحة واسعة فيه للخيال، ويحتاج أيضاً إلى حبكةٍ درامية، صادفت هنا أنها عبر تبديل النطف.
لست هنا في معرض الدفاع عن الفيلم، بل في انتقاد فكرة المنع التي تزايدت جداً في الآونة الأخيرة، وهو أمرٌ لم يكن موجوداً في السابق، خصوصاً أن هناك روايات كثيرة حملت مضامين ورسائل يمكن القول إنها إشكالية، لكنها مع ذلك بقيت موجودة، وفتحت أبواباً واسعة للسجال المفيد.
على سبيل المثال، أحالتني القراءة عن قصة الفيلم، بشكل من الأشكال، إلى رواية "عائد إلى حيفا" للأديب والمناضل الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والتي تحمل فكرة مشابهة، لكن بطريقة معكوسة، فالرواية، لمن لم يقرأها، عن عائلة فلسطينية اضطرّت إلى ترك ابنها في حيفا في أثناء الهروب في النكبة عام 1948، لتربيه عائلة إسرائيلية. وبعد سنوات، تتمكّن هذه العائلة الفلسطينية من زيارة حيفا، وبعد البحث عن الابن، يتّضح أنه أصبح جندياً في الجيش الإسرائيلي. الرواية التي تعد من أهم أعمال كنفاني، ووجدت طريقها إلى السينما والتلفزيون، لم تثر أي جدلٍ في ذلك الحين، لكنها لو صدرت في هذه الأيام لكان من الممكن أن تتعرّض إلى حملة شيطنة، ويتهمها بعضُهم بأنها عن أسرلة الفلسطينيين الذين بقوا في الداخل، واندماجهم مع المجتمع الإسرائيلي، فيما قد يدافع عنها آخرون، ويشيرون إلى أنها تنتقد التجاهل العربي لفلسطينيي الداخل وإزالتهم من حسابات القضية الفلسطينية.
من المفهوم أن هناك من قد يرى رسائل مختلفة في فيلم "أميرة"، أو في أي فيلم آخر، وهو أمر حمّال أوجه، شانه شأن أي عمل إبداعي، وهو ما يستوجب النقاش، وليس الإقصاء.