في مجزرة هي الأشدّ دموية من نوعها، استهدف تنظيم "داعش" أهالي محافظة السويداء ليسقط من بينهم أكثر من 250 قتيلاً. ويروي الناجون لحظات تلك الهجمات، لا سيّما هؤلاء الذين فقدوا أفراداً من أسرهم، فينقلون مشاهد دموية وصوراً عن وحشيّة ما ارتكبه التنظيم وكيف قتل الأطفال والنساء بدم بارد ومن دون تمييز.
هالة، من هؤلاء، وما زالت في حالة من الصدمة والخوف. تخبر "العربي الجديد": "سمعنا إطلاق نار في داخل البلدة وبعد دقائق علا صراخ الأهالي فيها. حينها، كنت مع أختي في حقلنا القريب، ورحنا نسمع أصواتاً تدعو إلى الهروب. الجميع كان يصرخ ويبكي، خصوصاً الأطفال. أصواتهم كانت تخترق أصوات الرصاص. عندها، لجأنا إلى مكان بين الصخور أنا وأختي وبعض النساء".
تضيف هالة، البالغة من العمر 33 عاماً، وهي من إحدى بلدات ريف السويداء الشرقي، أنّه "بعد نحو نصف ساعة، هدأ إطلاق النار والاشتباكات قبل أن يخرج شبان ويقولوا لنا إنّ المجرمين انسحبوا. عدنا إلى البلدة، لنرى مشهداً وحشياً يفوق التصوّر. على الأرض، رأيت طفلة كنت أعرفها لم تكن تتجاوز العاشرة من عمرها. كانت ملقاة هناك مضرجة بالدماء وجمجمتها مهشّمة تقريباً. بالقرب منها، كانت والدتها تصرخ بجنون وتبكي عليها وعلى ابنها الذي قتل كذلك خلال الهجوم الوحشي. في تلك اللحظة، لم نعد نحتمل وكدنا أن نفقد أعصابنا نظراً إلى هول ما يجري. لم نكن قادرين على مواساة أحد. من نواسي؟ ومع من نقف؟ لا ندري". وتتابع هالة: "وأنا أبكي، علمت أنّ شقيقي وزوجته وأحد أبنائه قتلوا كذلك. عندها أغمي عليّ، لأصحو بعد ساعة تقريباً، بحسب ما أخبرني أقرباء لي. لا أعلم ما ذنب هؤلاء الذين قتلوا. ما هو سبب سفك دم طفل في حضن أمه، لم يتجاوز عامه الأول؟ لا أحتمل حتى التفكير بما حلّ بنا. المشهد دموي وقد انطبع فينا ومن المستحيل أن يزول... سوف يرافقنا إلى الأبد".
أمّا كريم أبو سلطان البالغ من العمر 52 عاماً، فيخبر "العربي الجديد": "استيقظت قرابة الرابعة والنصف صباحاً كما العادة لأجهّز سيارتي وأتوجّه إلى سوق الهال فأجلب خضار دكّاني. فجأة، قرابة الساعة الخامسة، وقع انفجار ضخم أثار الرعب وأيقظ الأهالي من نومهم، قبل أن يتبعه بعد عشر دقائق تقريباً انفجار آخر". يضيف: "انطلقت حينها إلى الخارج مباشرة لأستطلع الأمر، فوقع انفجار ثالث بعد خروجي بدقائق. راح الشبان يركضون في اتجاه سوق مدينة السويداء الرئيسي الذي يبعد شارعَين عن بيتي، حيث وقع الانفجار الأول. سرت خلفهم لمعرفة ما يحدث، فعلمت أنّ عبوة ناسفة جرى تفجيرها في السوق. وعندما وصلت، رأيت أشلاء على الأرض. صعقني المشهد. كانت الدماء على واجهات المحال التجارية المحطمة، وحولنا أشخاص يلفظون أنفاسهم الأخيرة. لم نستطع إنقاذهم. من بينهم صديق عمري وجاري منذ الطفولة. لم أتمكّن من تمالك نفسي عند رؤية جثته، فأجهشت بالبكاء قبل أن أجد ابني خلفي يمسك بكتفي ويحاول مواساتي".
يتابع أبو سلطان: "سمعنا كثيراً عن وحشية هذا التنظيم ودمويته واستغلاله للدين بهدف قتل الناس وغسل عقول عناصره، لكنّها المرة الأولى التي نعيش فيها هذه الوحشية ونختبرها، وندرك إلى أيّ حد أوغل في القتل وسفك الدماء. أناس أبرياء خرجوا في الصباح الباكر سعياً وراء رزقهم لكسب قوتهم وقوت أولادهم. ليس لديهم أيّ هم آخر إلا ذلك. لكنّهم قتلوا بعبوات ناسفة وببرودة أعصاب. هل المبرّر أنّهم من طائفة الموحّدين الدروز أم ماذا؟ هل جاء داعش لتشويه صورة الإسلام الذي ننتمي إليه؟ نرجو من الله أن يخلصنا منهم ومن حقدهم وكراهيتهم. لا أقوى على قول كلام غير هذا".
من جهته، فقد محمد، البالغ من العمر 34 عاماً، والده في التفجير عند دوّار النجمة بمدينة السويداء. يقول لـ"العربي الجديد"، إنّه "كعادته خرج والدي صباحاً لينقل الخضار وبعض المواد الغذائية إلى محلات البقالة داخل المدينة. يومياً يخرج من البيت ويمرّ بالقرب من دوّار النجمة حيث وقع الانفجار. كنّا نائمين، وعند سماعنا صوت الانفجار الأول، هرعنا إلى الخارج لمعرفة ما يجري. ورحنا نحاول إسعاف المصابين في منطقة السوق". ويضيف محمد، الذي تحفّظ عن ذكر اسمه كاملاً: "وأنا في السوق، أخبرني أحد الأشخاص بأنّ أبي مصاب. سألته أين هو وكيف ذلك، فأخبرني بأنّه في سيارته بالقرب من دوّار النجمة. اصطحبني أحد الأصدقاء على دراجته النارية لأنّني لم أعد قادراً على السير. عند وصولي، رأيت سيارة والدي التي تهشّمت من الأمام كلياً. بعض الشبان أخرجوه منها، لكنّه لم يكن مصاباً. هو فارق الحياة بعد دقائق فقط من الانفجار. ورحت أقول في سرّي، كنت في مصيبة جيراني ومصيبة أبناء المدينة، لأقع في مصيبة والدي الذي ربّاني وعلمني. هو كذلك، قُتل بدم بارد كبقية الناس".
بالنسبة إلى معزّ أبو كرم، فإنّ "ما حدث فاجعة بكلّ ما للكلمة من معنى. كأنّها القيامة. وكان من الممكن أن تكون الكارثة أكبر لو أنّ التفجيرات وقعت في غير ذلك التوقيت". يضيف الرجل الستيني لـ"العربي الجديد"، أنّه "في المدينة المكتظة بالناس والتي يعيش فيها نازحون من حمص وريف دمشق ودرعا، كانت الجريمة لتكون أسوأ لو حصل ذلك عند توجّه الناس إلى أعمالهم مع موعد فتح الأسواق. كان عدد الضحايا سيفوق 500 قتيل في عموم المحافظة". يضيف أبو كرم أنّ "هذا الهجوم من شأنه إثارة فتنة لا أكثر، وإثارة أهالي السويداء على النازحين. لكنّ هذا لن يحدث، فنحن كنّا وما زلنا قطعة من الجسد السوري وسوف نبقى كما تربينا محبين لكل الناس ولن تفرّقنا الفتن".
إلى هؤلاء، يقول علي، ابن عائلة مقلد التي فقدت سبعة من أفرادها، إنّ "ما حصل هو كارثة. ثمّة أطفال قتلوا خلال الهجوم وكذلك نساء. وقد اقتاد التنظيم أسرى إلى جهة مجهولة ولا يُعرف عنهم شيء حتى الساعة أو ما ينتظرهم وهل هم أحياء أم أموات". يضيف الثلاثيني لـ"العربي الجديد": "من الآن فصاعداً، لم يعد أمامنا خيار إلا المدافعة عن أنفسنا ضدّ هؤلاء الوحوش. لم نعد نثق بأحد، وسوف تبقى بندقيتي معي وسوف أرفض كل دعوات التخلي عنها. فنحن لقينا ما لقيناه لظنّنا أنّنا في مأمن من تنظيم داعش الإرهابي. لكنّنا كنّا مخطئين ودفعنا ثمن خطأنا دماء أطفالنا ونسائنا وإخوتنا الشباب، وذقنا الرعب. ودماء أهلنا لم تجفّ بعد، ولن ننسى ما حل بنا طالما حيينا".