متحف "سلفادور دالي" في برلين: السريالية للجميع

27 أكتوبر 2014
حتى مقاعد الجلوس صُمِّمت من وحي لوحات دالي (Getty)
+ الخط -
المثيرُ الدقيقُ في الأمر، أنَّ تصميمَ المبنى المِعماري لمعرض سلفادور دالي في برلين، مُستوحىً من العناصر الفنيَّة الأساسيَّة المُتكرِّرة بشكلٍ مُستمرّ في لوحات الرسّام الإسباني الشهير.
فمقاعد الجلوس في صالة الدخول، صُمِّمَت على شكلِ شِفاهٍ حَمراء مُكتنزة، حيثُ تتكرَّرُ الشّفاه دوماً في لوحاته، كما أنَّ أدراج الصعود بين الطابق الأول والطابق الثاني هي رفيعة وطويلة، كما كان يرسمها دالي في الحقبة السرياليَّة من تجربته. ولا يقتصرُ التمثيلُ الفنّي لدالي في المِعمار الهندسيّ للمتحف فقط، بل يمتد حتَّى إلى الموظَّفين العاملين في المُتحف، إذ إنَّ زيَّهم الشخصي مأخوذ من النَّفَس الفني العام الموجود في لوحات دالي: قبعات مستديرة ومعاطف سوداء طويلة، ليبدو هؤلاء العاملون امتداداً للشخوص الموجودة في اللوحات المعلَّقة على الجدران المجاورة. 
زائر معرض دالي في برلين يدخل إلى صميم فنّه وعقله. في هذا البناء ـ اللوحة يحتار المرء لوهلةٍ بخصوص العاملين فيه، فيظنّ أنَّهم قد خرجوا للتوّ من لوحاته، ليبدو الزائر هو العُنصر الغريب الوحيد.
يتألّف المعرضُ من طابقين، ويتفرَّعُ كل طابِق إلى قسمين. اللوحات موزّعةٌ في الأقسام الأربعة، بحسب الحقبة الزمنيَّة والمزاج الفنّي السائد في تلك الحقبة، ويشعر الناظر أثناء تنقّله بين أقسام المعرض بالتغيُّرات العميقة الحاصلة في تجربة دالي الفنيَّة، كملاحظة التغيّر مثلاً من التكعيبيَّة إلى السرياليَّة.

جدار برلين وجدران دالي
"السريالية للجميع"، هذا هو شعار المتحف، الذي لا يتوقّف عن إبراز شعار آخر، مقتبس من عبارة شهيرة لسلفادور دالي: "ادخل إلى عقلي"، متيحاً للزائر اكتشاف عوالم أحد أكثر الفنانين إثارة للدهشة والحيرة بين حدود العبقرية والجنون التي عاش دالي ومات فيها.
تأسّس المتحف بداية العام 2009، في الذكرى العشرين لوفاة دالي ولانهيار جدار برلين، حينها ارتفعت أسوار دالي الإبداعية في برلين، عارضة أبرز أعماله وملخّص سيرته الفنّية المثيرة للجدل، وكان بين مقتنياتها أكثر من ألفي عمل من أعمال دالي المختلفة، من لوحات ومنحوتات خشبية ورسوم للكتب ومستندات شخصية وفنية وأفلام وأعمال ثلاثية البعاد... أسّس المتحف الألماني كارستن كولميير الذي جمع مع فريق كبير هذه المقتنيات من جامعيها ومقتنييها الهواة حول العالم.

كلب أندلسي
يتمُّ في المتحف أيضاً عرض فيلم "كلب أندلسي" الذي أخرجه المخرج الاسباني لويس بونويل، وكتب دالي السيناريو له أثناء فترة إقامته في باريس. تبلغ مدّة الفيلم سبع عشرة دقيقة. وهو يختصر الرؤية السرياليَّة الحلميَّة الفوضويَّة لدالي، إذ إنَّ الفيلم هو مزيجٌ متداخلٌ من الرعب والكوميديا والايروتيك، فلا يوجد ترابط منطقي بين الأفكار ولا تفسير عقلاني، والمشاهدُ صعبة التفسير والتأويل، كرجلٍ يجرُّ بيانو عليه جُثث حميرٍ مذبوحة، وشفرةٌ حادّة تفقأ عين فتاة، ونملٌ يزحف على يد رجل غامض.

يوميات عبقري
يحتوي المعرض أيضاً على النسخة الأصليَّة من مسوّدة كتاب دالي الشهير: "يوميات عبقري"، وهو مأخوذ من دفتر يومياته الذي يغطّي المرحلة الممتدّة من عام 1953 إلى 1963 من حياته. ويُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان "الحياة السرية لسلفادور دالي"، والذي يُعتبر من أكثر كتب دالي إثارة. وقد اختارت ادارة المتحف أشهر مقولات دالي الأدبية والفكرية في الكتاب لتكون بين معروضاته. وهنا أضعُ بعض الاقتباسات اللماحة: "- العظماء لا يموتون - لكي ترسم يجب أن تكون مجنوناً ـ لا تخف من الكمال فلن تصل إليه أبداً ـ أعتقد أنه آن الأوان لكي نجعل الاضطراب شيئاً منظَّماً ـ الغيرة من الرسامين الآخرين كانت دوماً مقياس نجاحي ـ هناك سحر ينبع مني، حين أرى شيئاً وأسميه باسم شيء آخر...
هذه الاقتباسات المترجمة إلى جميع لغات العالم، تُعتبر مدخلاً مهمّاً لفهم عوالم دالي النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأسريّة والفنيّة بالدرجة الأولى، كما أنّها تُظهرُ تأثّره الكبير بآراء الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، علماً أنّ دالي قد أطال شاربيه بشكلهما الشهير تقليداً لنيتشه.

المعنى من دون رسم
الريشَة المضطربة القلقَة تارةً، والمستقيمةُ الدقيقةُ المهندسة تارةً أخرى، الصراع الداخلي الحادّ، والوضوح الفنّي المباشر، هكذا تنوسُ لوحات دالي في الفترة التكعيبيّة من تجربته. ولكن ثمّة صفة واضحة تظهرُ في الفترة التكعيبيَّة من تجربة دالي، ألا وهي الرسم بأقلّ قدرٍ ممكنٍ من التعبير: تقسيمُ الفراغ الأبيض للورقة بخطوطٍ سوداء دقيقة مُتداخلة، صناعةُ المعنى بأقلّ قدرٍ ممكنٍ من الرسم، الرسم بكسل، الفراغُ الخامّ أكثرُ من الحيّز المرسوم، وكأنَّ أحدهم أعطى دالي قلماً أسود على وشك النضوب، وأجبرهُ على صياغة عدد غير محدود من المعاني شرطَ ألا ينفد حبر القلم، فتراه يرسم في لوحة رائعة حصاناً يراقب تشكّل شكل حصان من فوضى الغيوم، أو فراشة تفرد جناحيها لتصبح ثوب امرأة.

إصرار الذاكرة والخلود
في قسم آخر من المعرض، يلاحظ الزائر آثار الصدمة الفرويدية (عالم النفس سيغموند فرويد) على تجربة دالي: رسمُ الأحلام بدقّة، إطفاء الوعي وتركُ اليد ترسم، قتلُ أية رقابة عقلية على المنتج الفنّي، والتركيز على الصور اللاشعورية للجانب الجنسي العميق من شخصيّة الإنسان، الهلوسة والذعر، التحلّل التامّ من الحياة الواقعية اليومية. في لوحته السريالية الشهيرة المسمّاة: "إصرار الذاكرة"، حيث ساعة الزمن منصهرة تحت شمس حارقة، يشعر الواقف أمامها في المتحف بـ"الوهرة". الزمن المنصهر هنا يرمز إلى عبثية ولاجدوى الزمن، وألم الحنين.
صرّح دالي مرّة، في مؤتمر صحافي، عن رغبته الحارقة في الخلود، وقد ذكر صاحب مقولة "أنا لا أتعاطى المخدّر، أنا المخدر!" عن رغبته في حفظ خلاياه في مكان آمن ربما يستطيع الطب إعادة إحيائه من جديد. الدخول إلى متحف دالي هو شعورٌ بنشوة الخلود، والخروج منه إحساس بوهم هذا الشعور.
المساهمون