بنزرت بلا مدفع في رمضان

26 يونيو 2016
يتمُّ إطلاق 7 طلقات للإعلان عن بداية رمضان (Getty)
+ الخط -
لطالما استيقظ سكان محافظة بنزرت شمال تونس، على صوت المدفع وعلى طلقاته التي تعلن عن موعد الإفطار والإمساك في رمضان، وعن بداية ونهاية الشهر الفضيل، ولكن لم يسمع لمدفع رمضان في بنزرت أي دوي خلال هذا الشهر. المدفع هو عبارة عن كبسولة محشوة بالبارود تطلق في الهواء، وتتميز بدويها الهائل الذي يسمع على بعد كيلومترات، وينتظره الكبار قبل الصغار.

في القصيبة، المدينة العتيقة الضاربة في القدم، بمينائها الترفيهي، وقوارب السكان المحليين المتراصفة على اليمين والشمال، والمتحف البحري، وفضاء المبدعين، والبرج العالي الشامخ منذ آلاف السنين، حركية لم تشهدها المدينة طيلة أشهر السنة، ففي الليل تعج بالوافدين زوّاراً، ومحليين، هنا قد تشم رائحة الشهر الفضيل، وتعرف أنّ للمكان نكهة تميزه، وسرّاً قلَّما تجده في مدينة أخرى. في مدخل سيدي سالم، المنطقة المطلة على ضفاف المتوسط، يعترضك هيكل المدفع المعروض للزينة، فوجوده يُذكِّر السكّان المحليين بعاداتهم في هذا الشهر الفضيل، عندما كان لرمضان جو خاص، ورونق كلما سُمِعَ دوي المدفع.

مشاعر أهالي مدينة بنزرت لا تخلو من حنين إلى صوت المدفع، فلطالما عبّروا للسلطات المحلية عن رغبتهم في عودة المدفع، لأن حكايتهم معه لا يفهم أسرارها إلا من تربَّى على دوي طلقاته، ومشاهد ركض الأولاد بين الأزقة والأحياء، وهم يصرخون "المدفع ضرب، المدفع ضرب"، أي تمَّ إطلاق البارود في الهواء، وعلى صوت "المسحراتي"، المعروف هنا باسم "بوطبيلة"، عندما كان يوقظ السكان للسحور.

يقول حميد، 84 عاماً، صاحب مقهى بالقصيبة، في البرج العالي لبنزرت، إن المدفع يعود إلى الخمسينيات، وإلى فترة الاستعمار الفرنسي بتونس، عندما كان الجنود الفرنسيون يطلقون البارود في الهواء خلال شهر رمضان، عوضاً عن السكان المحليين الذين لا يسمح لهم بممارسة هذه العادة خلال الشهر الفضيل. لكن بعد الاستقلال، في عام 1956، تسلَّم أهالي المدينة المشعل، واستمروا في إطلاق البارود من المدفع لعشرات السنين، ولم يتخلفوا عنها في رمضان أي عام.

عادت الذاكرة بعمّ حميد عدة سنوات إلى الوراء، بدا وكأنه يستجمع ذكريات الزمن الجميل، فقال لـ"العربي الجديد": "يا حسرة على المدفع، كانت تطلق 7 طلقات للإعلان عن بداية شهر رمضان، وأخرى للإعلان عن نهايته، كنا ننتظرُ صوت المدفع على أحرِّ من الجمر، وكان ينتابنا شعور غريب، هو مزيج بين الفرحة والحنين إلى عادات الأجداد، كنا نركُضُ ونصرُخُ في الشوارع مع كل طلقة، ولا ننام ليلة العيد إلا عند سماع دوي المدفع، لنطمَئنّ أن الغد هو يوم عيد".

وأضاف حميد أنّه تم التخلي عن هذه العادة مباشرة بعد الثورة، إذ لم يُسمَع مُجدداً دوي المدفع في بنزرت، معتبراً أن المسؤولين الجدد الذين تعاقبوا على المدينة تخلّوا عن هذه العادة، رغم أهميتها لدى السكان المحليين في بنزرت، أما في صفاقس، فقد حصلت حادثة أليمة، نتيجة تقادم ونقص الصيانة للمدفع هناك، مما أسفر عن وفاة مهندس البلدية، وجنديين، ومن يومها لم يسمع للمدفع دوي في صفاقس، ثم في القيروان، ثم في بنزرت.

كان مقهى حميد مليئاً بصور فريد الأطرش وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأسطوانات قديمة وأخرى مضى على وجودها عشرات السنين. يؤكّد الشيخ أنه تربّى على هذه الأنغام وأنه من جيل عشق صوت الكبار تماماً كعشقه لهذا البرج العالي.
دلالات
المساهمون