الصوفية..أصل حكاية الموسيقى العربية

09 ابريل 2016
ابتكرت الطريقة المولوية الرقص الدائري (Getty)
+ الخط -
تَدين الموسيقى العربيَّة في نهضتها الحديثة للأجواء الصوفيَّة التي سيطرت على الغناء العربي في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حين قاد شيوخ الإنشاد الديني في مصر عملية تطوير الموسيقى العربية، من أمثال، يوسف المنيلاوي (1850-1911)، وسلامة حجازي (1852-1917)، وابراهيم القباني (1852-1927)، وأبو العلا محمد (1878-1927)، سيد درويش (1892-1923)، وزكريا أحمد (1896-1961)... وغيرهم.

وجميعهم كان يسبق اسمه لقب "الشيخ"، وذلك نظراً لارتباطهم جميعاً بالحركة الصوفية وأناشيدها الدينية في الاحتفالات الموسمية والموالد والحضرة الصوفية وغيرها. وفي الموصل كان شيخ الموسيقيين العراقيين، الملا عثمان الموصلي (1854–1923)، قد انتظم في سلك الطريقة الرفاعية، وهو الذي ارتبط أيضاً بالتصوف التركي، فقد سافر إلى إسطنبول عدة مرات وارتبط بالسلطان عبد الحميد، ولا شكَّ في أنَّه أستفادَ أيضاً من تلك الزيارات. وكان الأتراك يجتمعون للاستماع إلى غنائه في جامع "أيا صوفيا" في إسطنبول.


بينما كان حضور مجالس السماع الصوفي طاغياً في بلاد المغرب العربي، حيث تعددت الطرق الصوفية والرباطات والزوايا التي مثلت مسرحاً واسعاً لممارسة الإنشاد الديني والذكر والسماع قديماً، وحتى اليوم. وفي المغرب، يحفظ للطريقة العيساوية الجزولية (نسبة إلى محمد الجزولي المتوفى سنة 1421م، ومحمد بن عيسى المتوفى سنة 1525م) إضافة آلات إيقاعية غير الدفوف والطبول للإنشاد الديني، مثل آلات النفخ، وخاصة آلة الزّرنة التركية. بينما تبرز الإيقاعات الأفريقية وأنماط الرقص المصاحبة له، مع جماعات سيدي بوسعدية واللاميمونة بالمغرب.


والواقع أن الأثر العثماني في الموسيقى الصوفية كان كبيراً، وقد كانت تركيا تسيطر على الشرق العربي سياسيَّاً وثقافيَّاً، وذلك في فترة الاحتلال العثماني الشهيرة للعالم العربي، وكان السماع العثماني قد بلغ شأناً كبيراً على أيدي مجموعة من الطرق الصوفيَّة، التي ازدهرت في أنحاء الدولة العثمانيَّة كالمولوية (الدراويش) والبكداشية والخلوتية والجلوتية والجلشنية والعلوية. وجميعها طرق أنتجت موسيقى روحيَّة فيها قدر من التشابه.



جلال الدين الرومي مؤسس المولوية
وبالرغم من ذلك؛ فإن بعض ألوان الموسيقى الصوفية تسبق في نشأتها وجود الدولة العثمانية التي ولدت سنة 1299م، بينما تأسست الطريقة المولوية على يد مولانا "جلال الدين الرومي" (1207-1273م)، فيما تقول بعض المصادر إن "الحاج بكداش ولي النيسابوري" مؤسس الطريقة البكداشية توفي سنة 1270م. لكن ثمة اختلاف كبير في موسيقى الطريقتين لدرجة أن البكداشيين يعتبرون بعض الفنون المولوية خطيئة كبرى لا تُغتفر.


ابتكَرَت الطريقة المولوية الرقص الدائري بمصاحبة المقامات الموسيقية المعروفة، وكانوا يسمون الموسيقى الطقسية هذه (عين الشرف)، وتتكون من أربعة سلالم موسيقية متتابعة بمرافقة الآلات الموسيقية. إضافة إلى بعض الإيقاعات والتقاسيم الحرة، وإذا كانت الدفوف والطبول هي الأدوات الموسيقية الأكثر استعمالاً لدى معظم الطرق؛ فإن المولويين أولوا اهتماماً كبيراً للناي، فالناي بالنسبة لهم أقرب لروح الإنسان وصوته أشبه بالأنين، وهو أقرب للتعبير عما يجيش في الصدور.


أهم الآثار المولوية المتبقيَّة حتى الآن، تعود للفترة الواقعة بين حكم السلطان سليم الثالث (1789-1807)، والحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ويعد "كوزاك درويش مصطفى دادا" المتوفي سنة 1684 أقدم الموسيقيين المولويين المعروفين. وكان التأليف الموسيقي ميزة كبيرة في جماعات الدراويش، والمؤلف الموسيقي يسمونه "الذاكر باشي"، وهذا الذاكر، يُعدُّ واحداً من أربعة فقط يحق له ارتداء التاج (أي العمامة الخاصة) والخرقة الصوفية.


عُرفت الموسيقى والغناء لدى المتصوفة العثمانيين أحياناً باسم "الفن الإلهي"، ورغم غموض المصطلح شيئاً ما، فإنه كان يشير في عمومه إلى نوعين من الأداء، أحدهما كان يُغنى باللغة التركية في حلقات الذكر ومولد النبي. فيما نشأ نوع آخر من الفن الإلهي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أطلقوا عليه اسم "الشغول"، وكان عبارة عن ترانيم تؤدَّى باللغة العربية في شهر رمضان ومحرم وذي الحجة. كما ظهر نوع غنائي كان يقوم به المأذنون بعد صلاة التراويح في شهر رمضان يسمى "المناجاة"، حيث يصعد المؤذن على المنبر ويبدأ في إنشاد مدائحه واستغفاراته، وأحياناً تساعده مجموعة من المرددين من خلفه في أداء بعض المقاطع.

انحسر الأداء الفني الصوفي بعد سقوط الدولة العثمانية، غير أن فترة الثمانينات من القرن الماضي شهدت محاولات لإحياء هذا اللون بإعادة تسجيل بعض تلك الأعمال، وتوزيعها بصورة تجارية. ثم بدأت تعود تلك الأعمال شيئاً فشيئاً، في إطار استعادة الفلكلور التركي والتذكير به.



النقشبندية أول من أدخل القانون للغناء الصوفي:
في القرن العشرين، ظهرت بعض المواهب الفنية التي تنتمي للطريقة النقشبندية، والتي تعود أصولها إلى بهاء الدين النقشبند (1318-1389م)، وهي من أوسع الطرق الصوفية عالمياً، وقد انتشرت في الدولة العثمانية على يد الشيخ عبد الله الإلهي (1481م/1512م)، ومنها إلى العالم العربي.

الشيخ سيد النقشبندي، وكان والده شيخ الطريقة النقشبندية في مصر، يعد نسيج وحده في قوة الصوت وجماله، تعاون في بعض أناشيده مع كبار الملحنين مثل بليغ حمدي ومحمد الموجي وسيد مكاوي وغيرهم. وربما كان النقشبندي أول من غنى من المتصوفين بمصاحبة آلة القانون، حين غنى قصيدة ابن الفارض الشهيرة "قلبي يُحدّثني بأنك متلفي".

كما كان لموسيقى الطريقة النقشبندية صدى خارج الوطن العربي، ففي مدينة، كال، بألمانيا يغني الشيخ الألماني، حسن دايك، مدائحه بنكهة غربية، ممسكاً بآلة التشيلو، وبمصاحبة فرقة يعزف أحدهم على آلة الهارمونيوم، وثانٍ يعزف على آلة تسمى ديدجريدو، وآخر على الدف.




المساهمون