إدمان... "النياحة"

08 سبتمبر 2015
"النياحة"أكثر شيوعًا بين الرجال(getty)
+ الخط -

هي مهنة نسائية بامتياز، فيها يغيب توصيف الجنس اللطيف، لا تفترض تحصيلاً جامعياً ولا جلوساً إلى كراسي التعلم، فكل أدواتها، دموع وتصنع للحزن وقدرة على مواكبة خريطة من غادروا هذه الدنيا لتعديد مناقب وخصال قد تكون أبعد عن الواقع والحقيقة، لكنها سلاح "النائحة" أو "النادبة" لكسب المال.


وإذا كانت "النياحة" (النواح) مهنة رائجة في بعض البلدان العربية كمصر، والآسيوية كالصين، حيث مداخيلها المهمة تدفع النساء إلى الإقبال بكثافة عليها، بل والانخراط ضمن فريق النائحات الذي يشتغل بأجندة منظمة، فإن الحال في المغرب يختلف تماما، فالنائحة قد تبكي مع أهل الميت، بل وتوغل في شق ملابسها والعويل والصراخ دون أن تنتظر مقابلاً لذلك، وهو ما يدخل في شق العادة التي ألفها في العديد من المداشر والقرى المغربية.

وبالعودة إلى التاريخ فالنائحات وجدن في المجتمع الجاهلي، وكان لهن دور تقليدي في ممارسة النياحة على الموتى، وانعكست بعض آثاره في الشعر العربي نفسه، ولا سيما في الرثاء. وقد استكره فعل النوائح في الإسلام.


ظلت هذه العادة تمارس لقرون طويلة، حيث تخرج النائحات في جنازة الميت يلطمن ويصرخن. ولم تكن النائحات تكتفين بالبكاء وتعديد خصال الميت، بل عرف عليهن في العصر العباسي، أنهن كن يطلبن من بعض الشعراء أن ينظموا لهن شعرا خاصا ينحن به تكسبا. فقد روى أحدهم عن بشار بن برد الشاعر البصري (في القرن الثاني للهجرة) قائلا:"...عهدي بالبصرة وليس فيها غزل ولا غزلة إلا يروى من شعر بشار، ولا نائحة ولا مغنية إلا تتكسب به"

وكانت النائحات يقصدن بشار في داره يطلبن منه أن ينظم لهن شعرا لينحن به. والنائحات عامة ينحن بأشعار معروفة وسائرة بين الناس، وخاصة من أشعار الرثاء.


وكما أن الغناء كان مهنة تقوم بها القيان، كانت النياحة كذلك حرفة يتكسب بها النساء ويتبارين فيها. ولا ندري إن كانت هذه الحرفة من اختصاص الجواري دون غيرهن من النساء، كما كانت حرفة الغناء التي تكاد تقتصر على الجواري المغنيات (القيان) فقط.. ولكن الطريف أن بعض القيان اللواتي اشتهرن بالغناء خاصة، قد زدن على ذلك بشهرتهن بالنواح أيضا..
ويبدو أن الجمع بين (الفنين) يزيد شأن الجارية المحترفة، كما يزيد قيمتها في البيع والشراء، كما كان الحال مع جارية اشتهرت ببغداد بالغناء والنواح، فتهالك الناس عليها وعلى نوحها بالعراق. وكان قد قدم بغداد خراساني فاشتراها وخرج بها إلى المشرق.


لكن الملفت للانتباه، أن مهنة النياحة في العصر العباسي لم تعد مقتصرة على النساء فحسب، فقد قام بعض الرجال بممارستها أيضا، لكنهم يعدون دخلاء على المحترفات لها... لذلك يقول الجاحظ"... كما رأينا رجالا ينوحون، فصاروا دخلاء على النوائح".


وفي العصور التالية اتخذت هذه المهنة مظاهر جديدة، وصار هناك رجال متخصصون فيها. واتسعت مهنة النياحة اتساعا لم تعد معه مقتصرة على مجالس البيوت، بل صارت ظاهرة عامة تُعقد لها المجالس، ولا سيما في النياحة على آل البيت. ورغم أن هذا النوع من النياحة أصبح أكثر شيوعا بين الرجال، فقد كانت هناك نساء تخصصن أيضا فيه. وصار النائحون ينوحون بقصائد مشهورة نظمت في رثاء الحسين وأهل بيته، واشتهرت من ذلك قصيدة ينوح بها النائحون والنائحات في بغداد، كان منها البيت المشهور: "لم أمرضه فأسلو لا و لا كان مريضا".
دلالات
المساهمون