برشلونة الساحرة مدينة لا تتكرر

26 سبتمبر 2015
كنيسة العائلة المقدسة (Getty)
+ الخط -
في الطريق إليها، لا تستطيع أن تحرك عينيك وأنت تنظر إلى الجروف الصخرية الخضراء المحيطة بها، إنها جبال "كولسرولا" جروف صخرية لن تعجز الأشجار والأعشاب على النفوذ من بين ثناياها. لكن حين وصولك إليها بالكاد تتذكر تلك الجبال لأن سحر المدينة سيأخذك معه إلى جذورها التاريخية. إنها برشلونة، المدينة التي لا يزال أصل تسميتها لغزاً تماما كما أبنيتها الذي تفنن مهندسها المعماري الشهير "انطونيو غاودي" بغرابتها جاعلاً عينيك أمامها مفتوحتين على وسعهما لا تعرفان من أين تبدآن التحديق.


حيث تقول الأسطورة إن من أسسها هو "هاملسار بارسا "والد "هنبيعل" في نفس المكان الذي توجد فيه اليوم. لكن المثبت تاريخياً هو اتخاذ الرومان منها حصناً لجيوش الدولة ومنطلقاً لتنفيذ فتوحاتهم تاركين فيها آثاراً عدة، وذلك في نهاية القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وتبعهم في بداية القرن الخامس الميلادي القوط الغربيون الذين هاجروا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية ولا تزال معالم تلك الحقبة واضحة بقوة بالعمارة في برشلونة وأضخم الصروح الدالة عليها هو قوس النصر الذي يتجلى فيه فن العمارة القوطية، ستذهلك ضخامته ولونه الأحمر وحجم المنحوتات والتيجان القوطية التي تغطيه بالإضافة إلى كاتدرائية برشلونة التي تعتبر إحدى أقدم الكاتدرائيات في أوروبا.

وفي القرن الثامن الميلادي استطاع المسلمون دخولها لكنهم لم يستطيعوا المكوث فيها طويلاً، بسبب أهميتها كميناء على المتوسط، حشد لويس بن شارلمان كل جيوشه واستعاد المدينة من المسلمين في عام 801 ميلادي.

وبقيت برشلونة تحت الحكم المسيحي حتى عام 985، عندما استطاعت جيوش المسلمين بقيادة محمد بن أبي عامر المنصور دخولها للمرة الثانية. وقد أمر محمد المنصور بتحديث إحدى كاتدرائياتها جاعلاً منها قصراً له ومقراً لخلافته. إذ كان موقعها في منتهى الشموخ حيث كانت تقع فوق هضبة تطل على المدينة العريقة. ولعل ما يميز هذا القصر، الذي يعرف اليوم بالمتحف القومي الكتالوني، هو أنك ستجد فيه امتزاجاً ساحراً بين حضارة القوط الغربية وفنونها والزخرفة الإسلامية الآسرة المذهلة التي جعلت منه بناء قل نظيره في أنحاء المعمورة.

ولكن استطاع الإيبريون، حكام ما بات يعرف بكتالونيا، استرداد برشلونة من المسلمين عام 1137. إذ عمل حكامها الجدد على توسيع رقعتها وأصبحت مركزاً تنطلق منه الجيوش لاسترداد مدن الأندلس من أيدي المسلمين. وأسسوا ما كان أقوى ممالك أوروبا في ذاك الزمن وهي مملكة أرغون التي استطاعت السيطرة على مساحات واسعة من حوض المتوسط فوصلت بأقصى حدودها إلى أثينا. وقد اتحدت مملكة أرغون في ما بعد مع مملكة قشتالة وليون بزواج ابن كتالونيا الامير فرديناند بابنة ملك قشتالة ايزابيل المتعصبة جدا للدين المسيحي والتي كانت تحمل عداء شديدا للمسلمين في الأندلس، ليشكلا معا مملكة إسبانيا الموحدة التي قادت حملة صليبية انتهت بسقوط غرناطة، أخر معاقل المسلمين وطردهم نهائيا من القارة العجوز...



تأثرت المدينة بشكل سلبي بعد الاكتشافات الإسبانية للعالم الجديد بسبب تغير طرق الاستعمار والتجارة وابتعادها عن المتوسط، بقيادة كريستوف كولمبوس والذي لا يزال تمثاله الضخم واقفاً في برشلونة.


لكن دماراً هائلاً حل بالمدينة الرائعة خلال الحروب الإسبانية عام 1714 في عهد فليب الخامس ملك إسبانيا حيث قام بهدم السوق التجاري ليبني قاعدة عسكرية مكانه كجزء من عقاب للمدينة التي ثارت على حكمه، وقام بمنع التحدث باللغة الكتلانية فيها وإغلاق جامعتها العريقة التي افتتحت عام 1450، وعادت المدينة لتسقط بيد القوات الفرنسية التي كانت تحت إمرة "نابليون بونابارت" وسلمها لأخيه "جوسيف بونبارت" وقام إلاسبان باسترداده بعد سقوط نابليون خلال القرن التاسع عشر. 

 أقرأ أيضاً: داماسكينو طليطلة روح دمشق فوق اسبانيا

وفي نهاية هذا القرن لمع اسم المعماري ا"نطونيو غاودي" الذي استطاع بغرابة تصاميمه وسريالية نظرته ليس تغيير معالم المدينة فقط بل إحداث نقلة هامة في تاريخ فن العمارة الحديث في كل أنحاء العالم حيث قرر تصميم عدة أبنية حينما تحدق بها تظن نفسك في فيلم خيالي للأطفال عن الساحرات والعجائب، فمثالا "بناء كزا ميلا". وهو واحد من أهم تلك الأبنية العجيبة يتسم بسطح غريب جداً مقتبس من شكل زعانف سمكة في نهايته قبة تشبه قبب الكنائس الروسية بينما كانت جدرانه متمايلة ملونة بالأزرق ومزخرفة بالتنانين وشرفاته فيها أعمدة منثنية متقدمة إلى الأمام تشبه فم وحش..

أقرأ أيضاً:مدينة وليلي المغربية تستضيف مهرجاناً عالمياً للفلامنكو

أما بناء "لابدريرا" فهوا سيزيدك إدهاشاً إذ إنه عبارة عن أربعة طوابق منحنية بشكل بارز مع شرفات معدنية على شكل أجساد بشرية طويلة القامات بحركات متنوعة، أما السطح هذه المرة فقد جعله عبارة عن رؤوس بشرية مختلفة الأحجام، ملتفة الرقاب، ومطموسة المعالم، هذه المخيلة الغريبة والأفكار السريالية الساحرة جعلت مدينه برشلونة بين أهم خمس مدن سياحية في العالم. لكنه لم يكتف عندها بل في نهاية حياته تقريبا بدا يخطط لأكبر مشروع له وهو كنيسة العائلة المقدسة sagrada familia التي حين ما تنتهي ستكون اكبر صرح ديني في التاريخ، حيث تم البدء في بنائها 1882 وقضى في تصميمها "غاودي "خمسة عشر عاماً انتهت بموته عام 1926.

أقرأ أيضاً:مهرجان شفشاون: إلهام التراث الأندلسي

ولكن ما زاد هذه المدينة شهرة وأهميه هو اختيارها كمسرح للألعاب الأولمبية في سنة 1992 التي كانت الدورة الأولى التي تشارك بها كل دول العالم بعد نهاية الحرب الباردة، فاتسمت بأنها أفضل دورات الأولمبيات في العالم مما جلب ترقية وتحديثاً كبيرين للمنشآت الرياضية والسياحية فيها وأدى إلى تطوير النوادي الرياضية فيها فاليوم يقف نادي برشلونة متفاخراً كأقوى الأندية الأوروبية.

أقرأ أيضاً:مسجد ابن عربي: هنا يرقد شيخ المتصوّفة
المساهمون