الرحبانيّ التائه

11 أكتوبر 2014
الموسيقي والممثّل زياد الرحباني
+ الخط -

ليس عيباً ألا يبقى لدينا شيء لنقوله. جرت العادة أن "يعرف" المثقف أو السياسي أو الناشط "كلّ شيء". نادراً ما نسمع جرأة بحجم: "لا أعرف". قليلون هم الذين يقرّون بمحدودية معرفتهم، خصوصاً في لبنان، كلّ لبنانيّ يعرف كلّ شيء. وزياد الرحباني "فنان" و"مثقّف" و"كاتب" مؤخّراً.

أحياناً يكون هناك شخص "يعرف" في موضوع معيّن، لكنّه بعد مرور الوقت تصبح معارفه هذه بلا قيمة. لنقل إنّ زياد الرحباني كان "يلتقط" اللحظة اللبنانية، تلك التي كان والداه مساهمين أساسيين في صناعتها. فيروز أمّه، "صوت لبنان"، وعاصي والده، مخترع المسرح الرحباني و"الحكاية" اللبنانية، أو "الحلم اللبناني"، في الأغنيات والمسرح، وقليلا في السينما.
قد تتلخّص حكاية زياد في عائلته، وليس في السياسة؛ فهو "نبغ" في مسرحية "سهرية" ولم يكن أتمّ عامه الـ20. قدّم مسرحية "نزل السرور" في 1974، ثم "بالنسبة لبكرا شو؟" في 1978، يقال إنّه "تنبّأ بالحرب" من خلالها. والمضحك أنّه كان قد مضى على بداية الحرب 3 سنوات حينها. ثم كان "فيلم أميركي طويل" الذي يعدُّ تحفته في 1980.

كان "تمرّد" زياد على والديه يشبه تمرّد أيّ شاب في عمره، خصوصاً في سنوات الثورات العالمية بين منتصف الستينيّات ومنتصف السبعينيّات. وانعكس هذا التمرّد "العائلي" تمرّداً فنياً؛ فسخرت مسرحياته من "الجرّة" ومن "كلّنا منحبّ بعض"، وغيرها من كليشيهات المسرح الرحباني (الأهل). وذهب إلى أنواع موسيقية كانت جديدة يومها، مثل الجاز، بدلا من "الدبكة" وموضتها القديمة، تلك التي سخرت منها "شي فاشل" في 1983، وكانت آخر مسرحية "تاريخية" يردّد الشبّان والشابات، هذه الأيّام، بعض جملها.

بعدها تطلّق من زوجته دلال، وابتعد عن ابنه عاصي (قبل أن يعرف أنّه ليس ابنه). ثم توفّي والده عاصي في عام 1986. ثم "انهار" الاتحاد السوفييتي في 1989، الذي منه كان "يقرأ" زياد التاريخ. والنتيجة أنّه توقّف عن تأليف المسرحيات حتّى عام 1993، حين قدّم "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" التي لم ترقَ إلى مرتبة "شي فاشل" و"فيلم أميركي طويل" و"بالنسبة لبكرا شو؟".
خلال تلك السنوات تغيّر الكثير.. انتهت الحرب التي "دمّرت" لبنان الرحابنة؛ ذلك الذي تمرّد فيه زياد على صورته، تمرّده على "أهله". هو المسيحي الذي "خرج" على "الحكاية" المسيحية، وابن "النظام" الذي ساهم في تقويضه، أو على الأقلّ وافق بانتسابه إلى "حزب الفقراء".

وحين حلّ "السلم البارد" الذي لم "يرث" فهمه وأدبياته في منزل العائلة، لم "يلتقط" زياد "اللحظة الجديدة". حاول استعادة نجوميته وفشل. بات النجوم هم إما السياسيون أو المغنّون. "أكلت" المسرح فرق الشانسونييه. جلس زياد على رصيف والدته، وحاول أن "يعود إلى المنزل"، فكتب ولحّن لها ألبومي "كيفك إنتَ" في 1991 و"ألبوم إلى عاصي" في 1995. حتّى بديا غارقَيْن في الحنين، في حين مشى لبنان خطوات إعادة الإعمار.
كانت حكاية لبنانية جديدة تولد، لم يجد الرحباني نفسه فيها، ولا "فهمها"، ولا استطاع مواجهتها. حاول بالموسيقى، وبالأغنيات، فكان ألبوم "مش كاين هيك تكون" في 1999 ورافق والدته في المهرجانات. ثم ألبوم "ولا كيف" في 2001.

في 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري، و"تدمير" الحكاية اللبنانية التي امتدّت من 1990 إلى 2005، وجد زياد منفذا إلى "الساحة" مجدّدا. استعدى رفاق الأمس في "اليسار الديمقراطي"، وراح يشتمهم في جريدة "الأخبار". وجد نفسه في حضن "حزب الله" وجريدته الجديدة. "بدا" (بل كان) منحازاً إلى قوى 8 آذار بشبهتها "المقاوِمة"، ضدّ قوى 14 آذار بشبهتها "الرأسمالية"، امتداداً لمشروع الحريري.
أيضاً لم يفلح زياد الرحباني.. لا مسرحية "ضربت" ولا أغنية، فقط بضعة مقالات "استنزفت" رصيده اللبناني، وجعلت نصف اللبنانيين يكرهونه، ولم تجعل نصفهم الآخر أكثر إعجاباً به. ومرّة جديدة كان النجوم هم إما سياسيون أو فنانون، راح يشتمهم بلغة "أقلّ" من لغته القديمة.

لم "يلتقط" زياد الرحباني "اللحظة" اللبنانية الثالثة في حياته، تلك التي بدأت بعد اغتيال الحريري، حتّى جلوسه قرب زاهر الخطيب وأسعد حردان ووئام وهّاب "تحت" الشاشة العملاقة التي يطلّ منها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في مايو/أيّار 2012 لم يجعله "نجماً" لأكثر من نشرتي أخبار.
خسر الجمهور اللبناني، أو نصفه، وبعد أحداث 7 مايو/أيّار خاطر بخسارة "الجمهور العربي" الذي لم يعجبه ما فعله "حزب الله" ببيروت. رغم أنّه كان بعد عام 2000 يقيم حفلات في دول عربية وخليجية.

اليوم ربما يحاول أن "يلتقط" اللحظة اللبنانية والعربية الجديدة، في مناصرة الثورة السورية، متأخّرا، وإعلان رفضه أحداث 7 مايو/أيّار، متأخّراً جداً. لكنّه ليس عيباً أن يقول: "ما بعرف شو عم يصير"، وسط تردّده "الجنبلاطي" بين شاشتي "المنار" و"المستقبل"، وبين خطابيهما.
...في النهاية، كان "نبوغ" زياد مرتبطاً بأصله الرحباني، هو ابن عاصي، ووالده، وبحياته الشخصية... لكن: إنّما أصل الفتى ما قد حصل.
المساهمون