استكشاف أسرار عملية الاحتراق

12 نوفمبر 2016
غرفة الاحتراق تعتبر الأساس في محركات السيارات (Getty)
+ الخط -
تعتبر ضرورية في تشغيل السيارات، وتحليق الطائرات، وتدفئة البيوت، وتستخدم لإنتاج الكهرباء، وتسمح بصناعة الإسمنت والزجاج والمواد المعدنية. يعزى ذلك كله إلى العملية الكيميائية التي تسمى الاحتراق.
في الوقت الراهن، يعد هذا التفاعل الكيميائي مهماً جداً للأنشطة البشرية، حيث يوفر 85% من الطاقة الأساسية في العالم. كما أن الاحتراق من أسباب تلوث الهواء وانبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون - CO2 من أهم غازات الاحتباس الحراري.
عرف الباحثون هذا الأمر، وهم يعملون الآن بجد لاختراق أسرار ذلك التفاعل، للوصول إلى تطوير عمليات صناعية عصرية، ومحركات جديدة، ومحطات حرارية حديثة، أقل تلويثاً للبيئة، وأقل استهلاكاً للطاقة.
ليست المخاوف البيئية بالأمر الجديد، حيث خلال ثلاثين عاماً الماضية، استطاعت بحوث الاحتراق تقسيم 1000 كمية من انبعاثات الجسيمات الملوثة (السخام وأكاسيد النيتروجين، وأنواع من الهيدروكربونات الأروماتية...) من المحركات، كما تم مضاعفة كفاءة البعض منها، وبالتالي خفض انبعاثات CO2.
ولا يزال القيام بالكثير في هذا الميدان، حيث تسعى شركات أوروبية مصنعة لمحركات الطائرات والطائرات العمودية، إلى خفض الانبعاثات بنحو 80% بحلول 2020.
ولتحقيق هذه الأهداف، لم يدخر العلماء أي جهد لذلك. فمن خلال التجارب في المختبرات، والتطوير في النظريات والقيام بالمحاكاة عبر الحاسوب، يحاول العلماء الفهم الدقيق والمفصل لآليات السيطرة على الاشتعال داخل غرف الاحتراق، أين يتم انطلاقها.
ومن داخل تلك الهياكل القادرة على تحمل درجات حرارة عالية وضغط مرتفع، يتم حرق كمية من الوقود (بنزين، كيروسين أو غاز الميثان) من خلال وضعه مع الهواء. وبعد ذلك، يتم استخدام الطاقة الناتجة لتكوين قوة دافعة. ويتطلب هذا التحويل إلى أنظمة معقدة نسبياً.
في حال محركات الطائرات، فإنها تحتوي على منفاخ وضاغط وتوربينات، لإخراج الغازات من خلال فوهة في الأخير، ومن تم دفع الطائرة في الاتجاه المعاكس.
أما في حال محركات السيارات، فإن انبعاث الحرارة الناتجة عن عملية الاحتراق، تؤدي إلى إحداث ضغط زائد على الصِمامَة، والذي يُترجَم إلى قوة دافعة تطبق على المكبس. ويتم تحويل حركة هذه الأخيرة إلى دوران، وبالتالي تدوير عجلات السيارات.
ويسعى مصممو غرف الاحتراق إلى تحقيق هدف تطوير أنظمة احتراق مكتملة ونظيفة، لكل المزيج "وقود-هواء"، وبالتالي تقليل كمية الملوثات وغاز ثاني أوكسيد الكربون CO2، المنبعثة في الهواء.
ويخضع أداء "غرف الاحتراق" إلى عدة عوامل منها: الشكل، ومعدل حقن مزيج وقود-هواء، ونسبة كل منهما في المزيج، وكذلك عدد المضخات.
ولإيجاد الصيغة المناسبة، أصبحت عملية المحاكاة الإلكترونية طريقةً لا بد منها، حيث تسمح بالتنبؤ عن كيفية تصرف هذه الغرف، وربما إلى تقليل من التكلفة ووقت التصميم.
من أجل النمذجة الكاملة لعمل غرفة الاحتراق، يحتاج الباحثون إلى حل مجموعة من المعادلات المعروفة، تخص ميكانيكا السوائل، المتمثلة في معادلات Navier-Stokes. وتصف هذه المعادلات تدفق النيران، وربطها باحتراق مختلف الأصناف الكيميائية المتواجدة في غرفة الاحتراق.
غير أن الأمر ليس بهذه السهولة، حيث إن الاحتراق ظاهرة معقدة، وتشمل من جهة، التدفق المضطرب والذي يتكون فيه باستمرار وبكل المقاييس، الدوامات الناتجة عن خليط الغازات. ومن جهة أخرى، الحركية الكيميائية والتي تدخل فيها آلاف التفاعلات وعدة مئات من أصناف المواد المختلفة.
وبفضل التقدم في مجال النمذجة والقدرة الكبيرة للحاسوب، وتطوير برمجيات متوافقة مع المحاكاة للمقاسات الكبيرة، أصبحت المهمة الآن في متناول أجهزة الكمبيوتر العملاقة.
ففي حين تتطلب المحاكاة عدة ملايين من الساعات على حاسوب المكتب، فإنها تتطلب عدة أسابيع على الأجهزة العملاقة، مما يمنح الباحثين عدة معطيات فيزيائية منها: درجة الحرارة والضغط وسرعة النيران، وغيرها...، فضلاً عن كميات الملوثات المنبعثة. ومن هذه البيانات، يمكن تأسيس تقييم مسبق عن كفاءة البنية المعمارية لغرفة احتراق جديدة، ومعرفة التوقعات عن مستوى التلوث الخاص بها.
لا يقتصر الأمر على هذا فقط، بل يجب على المحاكاة أيضا توقع الخلل في غرفة الاحتراق، منها مشاكل الإطفاء، أو استقرار اللهب، أو حتى الأسوأ منها وهو عدم الاستقرار الصوتي، والذي يمكن أن يتسبب في الضرر لهيكل المحرك أو حتى تدميره تماماً.
وبنفس طريقة النسف في البوق، حيث يهتز الأنبوب وينتج عنه الصوت، فإن صوت الاحتراق، في بعض الحالات، يقوم بهز الغرفة وبطريقة عنيفة للغاية، مما يعرضها للخطر.
ويتم مواجهة هذه المشكلة في أنظمة كثيرة، منها: محركات الطائرات والصواريخ وتوربينات الغاز التي تنتج الكهرباء، وحتى المدافئ المنزلية. وبالتالي، يكمن التحدي في توقع هذه الاختلالات من خلال المحاكاة الرقمية لإيجاد وسيلة للتخلص منها قبل الإقدام على إنتاج محرك جديد أو توربينات جديدة.
وهناك تحد آخر متمثل في تحسين التنبؤات بخصوص الملوثات الناتجة من أنظمة الاحتراق. لأنه حالياً، لا يمكن سوى التنبؤ نسبياً بمعدل إنتاج بعض الأنواع مثل أكاسيد النيتروجين على سبيل المثال، أما الأنواع الأخرى مثل السخام، فإنه أمر أكثر صعوبة.
للإجابة على هذه الأسئلة، لا يستند الباحثون فقط على عمليات المحاكاة الرقمية. حيث يدرسون في مختبراتهم أيضاً الاحتراق في أجهزة صغيرة تشبه عن قريب في عملها، الظروف الفيزيائية التي توجد في الأفران الصناعية.
ومن خلال هذه التجارب، يحاول العلماء نمذجة بطريقة ناعمة للظواهر المتصلة بالاحتراق. وبالتالي تحسين التنبؤات التي تنتجها المحاكاة الرقمية في عملية الاشتعال، وانبعاث الملوثات وعدم استقرار الاحتراق.
المساهمون