تغطية الإعلام الألماني للحرب على غزّة: شيء ما يتغيّر

18 يوليو 2014
وجع الفلسطيني يغطي على صورة الإرهاب (بلال خالد/وكالة اناضول/Getty)
+ الخط -

إذا كانت عملية رصد تغطية وسائل الإعلام العربية والعالمية لتطورات الأحداث في غزّة فيها من البداهة ما يكفي، إلا أن متابعة العملية نفسها في الإعلام الألماني تبدو مثيرة أكثر للاهتمام، وذلك لأسبابٍ لم تعد خافية على أحد.

فالعلاقة التي تجمع ألمانيا الاتحادية بإسرائيل علاقة شائكة، مركّبة، خضعت وماتزال لعوامل شتى، لعل الماضي النازي وسردية الهولوكوست بالإضافة إلى الصراع العربي الإسرائيلي، هي الأبرز من بين تلك العوامل التي حددت هوية وكيفية التعامل الألماني مع إسرائيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.

فهناك فضلا عن المساعدات السنوية التي قدّرت بنحو 25 ملياراً حتى سنة 2010، ووضوح الموقف الألماني السياسي العام تجاه الدولة العبرية، واختصاره بجملة واحدة تتردد على ألسنة المستشارين والساسة الألمان في "حق إسرائيل في الوجود"، هناك، أيضا، جانب ثقافي واجتماعي يجمع البلدين، لا يقف عند حدود النسبة الجيدة من اليهود الناطقين باللغة الألمانية، سواء من الجيل الأول المؤسس للاستيطان، أو من الجيل الثاني المؤسس للدولة، ولكن يتعدّاه إلى مسارات تأخذ طابع "العلاقات العامة" لتعريف الأجيال الألمانية بتلك الدولة الوليدة ضمن أفق سياسي اجتماعي وثقافي عام، يريد طيّ صفحة النازيين ومجازرهم ما أمكن، وبدفع كبير من "عقدة" الإحساس بالذنب لا يترافق فقط مع قدر أكبر من التغاضي عن تلك السياسات الاستيطانية والعدوانية للدولة العبرية، بل يذهب في أحيانٍ كثيرة إلى تبرير تلك السياسات بلا تحفّظ.

قد يجانبنا الصواب في القول إن الحروب الإسرائيلية في المنطقة هي "ترمومتر" العلاقة الشائكة هذه بين ألمانيا وإسرائيل، إذ غالبا ما يترافع الإعلام الألماني بشقيه المطبوع والمرئي، للدفاع عن إسرائيل وتبرير سياساتها وتقديمها ضحية في بيئة عربية وإسلامية معادية.

بداية التغيّر

ورغم مشروعية هذه النظرة التي اتسمت في العقود الخمسة الأخيرة بالثبات نوعا ما. إلا أن الأحوال قد تغيرت قليلا مع بدايات التسعينيات من القرن الماضي، على الأقل، بعد توقيع "اتفاق أوسلو" الذي باركته الحكومة الألمانية بقيادة الرجل التاريخي هيلموت كول، آنذاك، وما تلاه من أحداث ومجريات عصفت بالمنطقة، وبإسرائيل وفلسطين، ابتداء من "انتفاضة الأقصى" الدامية، مرورا بحصار ياسر عرفات ورحيله، وصولا إلى الحروب المتواترة بفواصل زمنية قصيرة.

المتابع لبعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة في ألمانيا بالنسبة للحرب الحالية الإسرائيلية على غزّة، سوف يلاحظ تغيّرا جديرا بالمتابعة، وإن كان مايزال محكوماً بتطورات لها علاقة بمجريات الحرب على الأرض، سواء في القطاع الفلسطيني أو في العمق الإسرائيلي داخل الخط الأخضر. فهناك وللمرة الأولى منذ عقود ما يشير إلى تغيّر ما في تغطية الأحداث، لا يقف عند حدود الكلمات والمفاهيم فقط، بل يتعداها إلى طبيعة الصراع بشكل أكثر عمقا.

وإن كنا نريد تخصيصاً أكثر، لقلنا، إنه وللمرة الأولى يتم الحديث بالنسبة للحرب الدائرة عن "طرفين" متعادلين في تحمّل المسؤولية على جانبي الصراع. لم تختفِ عبارات النعوت والاتهام بـ"الإرهاب" التي كانت تسم المسلّحين الفلسطينيين، عموما، وحركات المقاومة الإسلامية متمثلة بحماس، خصوصا، من النصوص المكتوبة والتقارير المصورة، لكنّ هناك ما يشير إلى أنّ ثمّة نقلة ما في التعبير عن الأوضاع القائمة آخذة بالتبلور. نجد من الصعوبة بمكان تناول مجمل ما كتب ونشر وأذيع بالتحليل في وسائل الإعلام الألمانية من قنوات تلفزيونية وإذاعات، سواء تلك الحكومية أو الخاصة، من صحف يومية ومجلات، إلا أن الوقوف على عيّنة من بعضها خلال الأيام الأولى للحرب التي نشهد قد يعطينا فكرة عامة عمّا نعتقد أنه مغاير لما سبقه.

تغيّر في التعابير السياسية

لعلّ الحدث المفصل كان باختطاف الشبّان الإسرائيليين الثلاثة في الضفة الغربية، وما تبعه من إجراءات إسرائيلية قاسية، وصلت ذروتها حتى اكتشاف جثثهم والتأكد من مقتلهم، وما تبعها من عملية اختطاف للشاب الفلسطيني من مدينة القدس الذي تم قتله على يد إسرائيليين بطريقة شنيعة، قامت على إثرها احتجاجات واسعة في القدس وبعض المدن داخل الخط الأخضر.

في بداية الأحداث أفردت قنوات تلفزيونية ألمانية (Das Erste, ZDF)، وهي قنوات تتبع للقطاع العام ويتم تمويلها من قبل دافعي الضرائب في ألمانيا، في نشراتها اليومية، تقارير تتحدث عن الواقعة عموما، إلا أن جنازة الشبّان الثلاثة تمت تغطيتها بشيء من التفصيل وتصدّرت النشرات الرئيسية التي كان بعضها يأتي في ذروة المشاهدة اليومية، خصوصاً بين شوطي المباريات في مونديال البرازيل.

صحيح أنّ مجمل هذه التقارير قد عرض المأساة مترافقا مع قدرٍ من التعبير عن مشاعر الحزن والغضب التي أبداها الشارع الإسرائيلي، إلا أنّ مجمل هذه التقارير المصورة القصيرة كانت تشير إلى خطورة استغلال حالة الغضب العارمة للقيام بخطوات أو تدابير عقابية و"ثأرية" بحق الفلسطينيين في غزة أو حتى في الضفّة. ومع تطورات الأحداث والتهديدات الإسرائيلية بشنّ الحرب على "حماس" في غزّة، كانت هناك أيضا تقارير مصورة تضمّنت كلمات مثل: "إجراءات عقابية" "عقاب جماعي" أو "اعتقالات تعسفية وغير قانونية" و"حلّ الدولتين".

كل هذه التعابير كانت تشير بشكل واضح إلى السياسة اليومية التي تقوم بها إسرائيل في سياق "الرد" على عملية قتل الشبان الثلاثة. وحتى عندما بدأت الحرب بعد اتهامات مباشرة لحماس بالوقوف وراء العملية وبدء القصف الإسرائيلي العنيف على غزّة، كانت التقارير المعروضة في القناتين المذكورتين تحاول الإشارة دوما إلى المدنيين الفلسطينيين المحشورين بين سندان السياسة الإسرائيلية ومطرقة حركة حماس.

أغلب هذه التقارير كان يذكّر أيضاً بأعداد القتلى من الجانب الفلسطيني وبصعوبة الأوضاع الإنسانية والطبية والخدماتية في القطاع المحاصر منذ سنوات. ورغم وجود مشاهد طويلة تظهر هروب الإسرائيليين في الشوارع أثناء الهجمات الصاروخية الفلسطينية أو حتى ترصد أجواء الملاجىء المجهّزة في المدن الإسرائيلية، إلا أنّ هذه الصور والمشاهد لم تكن هي الطاغية في التقارير كما كانت هي الحال منذ سنوات أو حتى في الحربين السابقتين. وحتى عندما يتم استضافة أحد الخبراء المهتمين بشؤون الشرق الأوسط أو عند تعليق أحد المراسلين من إسرائيل، كانت تتم الإشارة غالباً إلى "حق إسرائيل" في الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها ضد هجمات "منظمة حماس"، مع التأكيد على ضرورة "التزام" إسرائيل بالمعايير الدولية في ما يخص إجراءات حماية المدنيين الذين لا يملكون لا الملاجىء ولا أماكن آمنة في القطاع المحشور.

مواقف الصحافة الورقية

في ألمانيا صحافة عريقة، وتعتبر صحف مثل (Allgemeine Frankfurter, Die Welt, Süddeutsche Zeitung) الممثّل الأبرز لها، فضلا عن كونها الأكثر جدارة في تشكيل الرأي العام الألماني عموما.

منذ بدايات الأزمة كانت أخبار تطور الأوضاع في الحادثة التي أشرنا لها تجد مكانا في الصفحات الداخلية بشيء من صيغة إخبارية لا تترافق مع تحليل كبير. إلا أن هذه الحال قد تغيرت مع الدفقات الأولى للصواريخ الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، حيث أخذت المقالات التحليلية المطوّلة تأخذ حيزا أوسع في تناولها للحدث وفي تغطيتها لأبعاده السياسية والإنسانية القريبة والبعيدة.

وكان لافتا غلاف الصفحة الرئيسية لصحيفة "زود دويتشة تسايتونغ" واسعة الانتشار، ذات الهوى اليساري المعتدل بعد أيام من الحرب (11.07.14) حيث عرضت صورة مؤثّرة لثلاث نساء فلسطينيات من غزّة يبكين والخوف بادٍ عليهنّ، وعنونتها بكلمة "وداع" مرفقة بوصف قصير عن القصف الإسرائيلي للقطاع وعدد القتلى الفلسطينيين ووداع النسوة الثلاث المحزن لأحد أقاربهن.

أمّا في الصفحة الداخلية فكان هناك تقريران، الأول (صفحة 4) يذكر بموضوعية كبيرة "مصالح" جميع الأطراف، مثل إسرائيل ومصر في شنّ ومباركة الهجوم على آخر معقل للإسلاميين في المنطقة بعد الانقلاب العنيف في مصر. جاء أيضا عن تردد "حماس" وتحفّظها في الانزلاق إلى حرب في هذه الأوقات التي تبدو فيها محاصرة من غير سند، إقليمي أو عربي أو إسلامي. أمّا العمود الآخر (صفحة 7) فقد تناول بالتحليل الموقف الإسرائيلي، وتمت مماثلته بموقف حماس الرافض للهدنة.
وبعد استعراض "أهمية" هذه الحرب بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سياسيا وانتخابيا، عرّج المقال مجددا على ارتفاع كلفة هذه الحرب بشريا والذي يكاد يكون محصورا بالجانب الفلسطيني وحده.

موضوعية أكثر

أما صحيفة "فرانكفورته ألغيماينه" فقد أفردت، أيضا، في صفحتها الأولى صبيحة اليوم السادس للحرب (14\7\2014) صورة تظهر جنوداً إسرائيليين غير واضحي المعالم وهم يطلقون النار من مدفعية قريبة، ويظهر وراءهم دخان أسود يتصاعد من مكان بعيد. في المقال الظاهر على ميمنة الصفحة نجد أيضا عنوانا لافتا للنظر يتناول الموضوع: "ليس هناك منتصر"، استعرض الكاتب فيه بعض المعطيات العسكرية والسياسية التي تفيد بأن الحرب هذه لن يكون فيها منتصر بأي حال، ولكن يبدو فيها الفلسطينيون في القطاع المحاصر هم الخاسر الوحيد، حيث تُظهر هذه الحرب في يومها السادس فقط بأنّها تجاوزت خسائر الحرب الماضية في حجم الدمار الذي ألحقته بالقطاع وأهله.

ويختتم الكاتب مقاله بأنه حتى لو تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مشابه لذلك الذي حصل في 2012، ففي غياب بوادر جدّية في "حل سياسي" لمشكلة الفلسطينيين والاحتلال، لن تجري الأمور إلا من أجل استراحة أخرى لمعاودة الحرب آجلاً. في كل هذه التقارير المذكورة هناك ندرة في الحديث عن الفلسطينيين وحركة حماس بالتحديد على أنهم "إرهابيون"، فضلا عن معاودة الإشارة إلى "طرفي النزاع" في تحمّل المسؤولية على الأقل.

إسرائيل المختنقة بـ"اليمين"

ورغم الضجة الكبيرة التي أحدثها فوز المنتخب الألماني بكأس العالم إلا أن أهم مجلتين أسبوعيتين مطبوعتين (Stern, Der Spiegel)، تناولتا الأوضاع المتدهورة في قطاع غزّة بشيء من التفصيل وبكثير من الإثارة. ففي عددها الصادر في اليوم الثامن للحرب (17.07.2014) أفردت مجلة "شتيرن" تقريرا مفصلا عن الحرب الدائرة، وأفردت مساحة لا بأس بها لصورة قصف عنيف من غزّة، وتحتها كتب نصاً هو الأول من نوعه في ما يخص اتجاه الرأي العام نحو إسرائيل في ألمانيا.

التقرير يذكر أن 14% يعتقدون أن إسرائيل هي المذنبة في الحرب، بينما يعتقد 16% أن حماس هي المذنبة، فيما يتّجه 53% من الأصوات صوب "المسؤولية المشتركة" لحماس وإسرائيل. ليس هذا فحسب، بل المقال يذهب إلى أن 9% فقط من المصوّتين يعتقدون بوجوب وقوف الحكومة الألمانية بوضوح مع إسرائيل. في التقرير الداخلي الذي يمتد على صفحات، هناك تفصيل أكثر حول جذور المشكلة تاريخيا وتركيز على سياسات إسرائيل التي ساهمت أيضا بعدم وجود سلام حقيقي مع الفلسطينيين. فيها أيضا بعض الآراء من مثقفين إسرائيليين، مثل الشهير آموس عوز حول "يمينية إسرائيل الواضحة واختناقها بهذا اليمين"، فضلا عن التشكيك في مسؤولية حماس عن مقتل الشبّان الثلاثة.

معاناة الفلسطينيين هي الأكبر

أما في مجلة "دير شبيغل" فنجد في الصفحة الرابعة من عددها الصادر يوم 17.07 تصدّراً لصورة مؤلمة من غزّة حيث النساء وبعض الشبان يحملون أطفالا صغاراً ويركضون هاربين من قصف قريب، والخوف والذهول بادٍ على وجوه الجميع. في مقدّمة التقرير الرئيسي اللاحق تظهر ايضا صورة أخرى لعائلة فوق الركام من غزّة وطفلة محمولة بأسى وحزن.
المقال يحاول، مع استعراض مصوّر لقدرات حماس القتالية، نقل معاناة المدنيين على طرفي الصراع في هذه الحرب، فيما لا يتعب القارىء بالاستنتاج بأنّ معاناة الفلسطينيين هي الأكبر والأكثر دمارا بالمقارنة مع الإسرائيليين الذين ينعمون بالملاجىء وبـ"القبة الحديدية" على أقل تقدير.

دويتشه فيله: حصار ويافعون

أمّا المواقع الإخبارية الألمانية الأشهر على شبكة الإنترنت (Spiegelonline, Deutsche Welle) فكان أيضا لها حظّ من تغطية الحرب، وبشيء من الجدّة النسبية في التناول، فالموقع الشهير وواجهة ألمانيا الثقافية والسياسية للخارج، صاحب المشاهدة العالية دويتشه فيله عرض مجموعة من المقالات الإخبارية والتحليلية في ما يخص تغطية الحرب منذ بدايتها والمواقف الرسمية منها. إلا أن ما يلفت النظر هو التعليق القصير والواضح الذي نشر بتاريخ 14.07 لصحفية ألمانية، مراسلة الموقع في تل أبيب، ويحمل عنوان "الاستفزاز والعنف"، استعرضت فيه الكاتبة بعض الأحداث السابقة مثل تشكيل الحكومة الفلسطينية في إطار المصالحة بين فتح وحماس، وأشارت إلى عدم رضى إسرائيل عن هذا الوضع، وأرخت شكوكا واضحة على عملية قتل الشبان الثلاثة وتهكّمت على من يحمّلون حماس المسؤولية من دون تمحيص ولا تحليل.

في نهاية المقال، أرجعت السبب الرئيسي لمشكلة "حصار قطاع غزّة" الذي دمر حياة الفلسطينيين عبر سنوات وأشارت إلى معاناة سكّان القطاع، وجلّهم من اليافعين دون 18 سنة، من الحصار الكبير الذي تفرضه إسرائيل أمام العالم. وكان الختام العبارة التالية: "إن لم تتغير هذه الأوضاع لن يكون هناك هدوء في الشرق الأوسط".

تغيّر سردية الإرهاب

لم يكن هدفنا من هذا الاستعراض السريع الوصول إلى خلاصات واضحة وحاسمة بشأن تغطية الإعلام الألماني لهذه الحرب، ولا يسمح نطاق الأيام القليلة الحالية بذلك. نعتقد من خلال بعض التقارير والأخبار والمقالات التي عرضنا جزءا منها بأن هناك لهجة جديدة في التعامل، تأخذ بعين الاعتبار السياسة الإسرائيلية بالنقد والتجريح، ولا ترجع أصل كل الأمور في المنطقة إلى هؤلاء العرب الذين لا يعملون إلّا من أجل معاداة إسرائيل.

يبدو أن تطورا ما يطرأ على "صورة" الفلسطيني خصوصا، إذ لم يعد ذلك "الإرهابي" الأوحد ولم يعد المسبب الرئيسي للخراب في المنطقة. هناك تفهّم ما للأوضاع الفلسطينية التي خلقها الاحتلال ودورها في تصنيع "الراديكالية" و"التطرف"، اللذين حلّا بدلا من سردية "الإرهاب" و"الإرهابيين". وما علينا إلا الانتظار حتى ينجلي غبار الحرب الدائرة، ولننتظر كيف ستتطوّر الأمور في هذا التناول الذي يبدو مهما ولكن يجب أن لا يأخذ أكثر من حجمه ولو جاء متأخرا.

المساهمون