أزمة جيوسياسية
بات مستقبل الصحافة معرضا للخطر بسبب استفحال الأزمات المتعاقبة، من أبرزها الأزمة الجيوسياسية التي تُذكيها الأنظمة الديكتاتورية أو الاستبدادية أو الشعبوية أو القادة الطغاة على رأس الحكومات، الذين يبذلون قصارى الجهود لقمع وسائل الإعلام وخنق المعلومات وفرض تصورهم الشخصي المتمثل في عالم خالٍ من التعددية والصحافة المستقلة. في هذا الصدد، تحافظ الأنظمة الاستبدادية على مراتبها الكارثية. ذلك أن الصين، التي تحاول فرض "نظام عالمي جديد للإعلام والتواصل"، مستمرة في نموذجها القائم على التحكم المفرط في تدفق المعلومات، حيث توضح الأزمة الصحية المتعلقة بتفشي فيروس كورونا الآثار السلبية على العالم بأسره.
أزمة تكنولوجية
أدى غياب لوائح تنظيمية متماشية مع العصر الرقمي وعولمة الاتصالات إلى فوضى إعلامية حقيقية، حيث دخلت الصحافة في منافسة مباشرة مع الدعاية ومجال الإعلانات والشائعات، علمًا بأن هذا الخلط المتزايد بين المحتوى التجاري والسياسي والتحريري يخلخل التوازنات على مستوى الضمانات الديمقراطية لحرية الرأي والتعبير. وفي هذا السياق، يُصبح من الأسهل اعتماد قوانين بالغة الخطورة تمهد الطريق تدريجيا إلى فرض قمع متزايد على الصحافة المستقلة والنقدية، وذلك تحت ذريعة الحد من انتشار الأخبار الكاذبة. وشكل الوباء أرضا خصبة لانتشار الشائعات والمعلومات الكاذبة بسرعة انتشار الفيروس، حيث تفاقم استخدام الأساليب التضليلية على منصات التواصل الاجتماعي من قبل جيوش المتصيدين الإلكترونيين.
أزمة ديمقراطية
تفاقمت بشكل ملحوظ الأزمة المسجلة في النسختين السابقتين من التصنيف العالمي لحرية الصحافة، والتي نتجت عن العداء -وأحياناً الكراهية- ضد الصحافيين. وهذا يؤدي إلى تزايد مهول في خطورة ووتيرة أعمال العنف التي تطاول الفاعلين الإعلاميين، وهو ما يُخلف بدوره مستويات غير مسبوقة من الخوف في بعض البلدان، حيث يواصل سياسيون بارزون أو حاشيتهم التحريض على الكراهية ضد الصحافيين بشكل علني. وفي هذا الصدد، يواصل رئيسان منتخبان ديمقراطيا -دونالد ترامب في الولايات المتحدة وجايير بولسونارو في البرازيل- تشويه سمعة الصحافة والحض على الكراهية ضد الصحافيين في بلد كل منهما. ذلك أن "ديوان الكراهية" -الذي يعمل تحت إشراف مقربين من الرئيس البرازيلي– يشن هجمات واسعة النطاق على الصحافيين الذين يكشفون فضائح متعلقة بسياسة الحكومة. ومنذ بداية أزمة فيروس كورونا، كثف بولسونارو هجماته على وسائل الإعلام التي يعتبرها مسؤولة عن "حالة هستيريا" تهدف إلى إثارة الذعر في البلاد.
أزمة ثقة
يستمر تزايد وتيرة انعدام الثقة في وسائل الإعلام المشتبه في نشرها أخبارا مشوبة بمعلومات غير موثوقة: فحسب النسخة الأخيرة من استقصاء إيديلمان تراست بارومتر، الذي يحلل مستوى ثقة الناس في المؤسسات على المستوى العالمي، أكد 57% من المستجوَبين أن وسائل الإعلام التي يعتبرونها مرجعهم الإخباري الرئيسي يمكن أن تنشر معلومات كاذبة.
وبينما يزداد موقف الصحافيين ضعفا في ظل أزمة الثقة هذه، فإنهم يُستهدفون بالأساس من قبل المواطنين الغاضبين خلال المظاهرات الشعبية الحاشدة التي تضاعفت وتيرتها في جميع أنحاء العالم. كما سُجلت ظاهرة أخرى بشكل واضح وبوتيرة متزايدة، حيث لا تتوانى بعض الجماعات القومية أو حركات اليمين المتطرف عن مهاجمة الصحافيين علانية، بينما لا تتردد جماعات متطرفة وأصولية عن استخدام العنف لفرض تصورها عن العالم على وسائل الإعلام.
أزمة اقتصادية
في العديد من البلدان، يجد قطاع الإعلام نفسه منهكا جراء التحول الرقمي الذي ما فتئ يشهده العالم. ففي ظل تراجع المبيعات وانهيار إيرادات الإعلانات وزيادة تكاليف الإنتاج والتوزيع الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الخام، اضطرت العديد من المؤسسات الإعلامية إلى تقليص أعداد موظفيها. فقد شهدت الولايات المتحدة الأميركية، مثلا، تقلص أعداد العاملين في الصحافة إلى النصف على مدى السنوات العشر الماضية. وقد ترك هذا التوجه عواقب اجتماعية وخيمة وآثارا خطيرة على الاستقلالية التحريرية في وسائل الإعلام بمختلف القارات، إذ من الطبيعي أن تكون الصحف التي تعيش وضعا اقتصاديا هشا أقل قدرة على مقاومة الضغوط. وزادت الأزمة الاقتصادية أيضا من تفاقم ظاهرة التمركز في أوساط وسائل الإعلام، لتتضاعف معها وتيرة تضارب المصالح التي تهدد التعددية الإعلامية واستقلالية الصحافيين. ويساهم المنطق التجاري الجاثم على وسائل الإعلام أيضا في تأجيج الاستقطاب بشكل مفرط بقدر ما يُذكي بيئة قائمة على الإثارة، مما يساهم في زيادة وتيرة التقليل من شأن الصحافة واستفحال أزمة الثقة في أوساط المواطنين.