كل شيء يحترق: سيكولوجيا وفلسفة الجوكر

17 مايو 2017
(فيلم: فارس الظلام)
+ الخط -
من بين جميع الأشرار في تاريخ الثقافة الشعبية، فإن الجوكر بلا شك واحدٌ من الأكثر ديمومة وإبداعًا، ويأخذ الجوكر لنفسهِ مكانًا مع أمثال هؤلاء الأوغاد الخالدين مثل دارث فيدر وهنيبال ليكتر.

وعلى الرغم من أنه كان دائمًا شعبيًا، إلا أن إخراج كريستوفر نولان وتمثيل هيث ليدجر بشكل ساحر لفيلم "فارس الظلام" عام 2008، وهو ما زرع الشخصية في وعينا، وما سيجعلها غير قابلة للمحو من أذهاننا أبدًا.

ولكن لماذا يحصل الجوكر على كل هذه الشعبية على الرغم من أنه قاتل عدميٌ مختل عقليًا؟ ولماذا نرى الندبة الحمراء الغريبة في ابتساماته الآن على الكثير من القمصان والملصقات والميمات بعد مضيّ 9 سنوات على الفيلم؟ ولماذا يقول الناس، بأن فيلم "فارس الظلام"، هو واحد من الأفلام القليلة التي تجعل المشاهد يقف جنبًا إلى جنب مع المجرم ويؤيّده؟

لفهم الإجابات على الأسئلة أعلاه، فإن علينا أن نغوص بعمق، كما فعل نولان في الإخراج وليدجر في التمثيل والكاتب دافيد غوير عندما أعادوا تخيّل وتصوير الشخصية من جديد. علينا أن نجد ونعترف بذلك الجزء المظلم والخفي من نفسيتنا. ذلك الجزء الذي تؤثّر فيهِ أفعال وكلمات الجوكر بشكل مباشر. ذلك الجزء الذي يتطلّب خبيرًا نفسيًا أن يخرجه من دواخلنا ويكشفه لنا. وهو ما سيجعلنا ندرس في هذا المقال سيكولوجيا وفلسفة الجوكر.


عميل الفوضى

"عندما يصير الأمر على المحك، سترى هؤلاء الناس المتحضرين يأكلون بعضهم بعضًا".

يفكر الناس كثيرًا في أنفسهم. هل لاحظت ذلك؟ وأنا لا أقول إن هذا الأمر سيئ أو جيد. ولا أقول عن الناس أغبياء، بل هو أمر مفهوم جدًا. فنحن نحب أن نفكّر في أنفسنا على أننا نبلاء وصادقون مقارنة بالآخرين. ونحب أن نصدّق بأننا لا يمكننا أن نؤذي أي أحد أو أن نسبب أي ألمٍ من أي نوع.

وبهذا الخصوص، يخبرنا علماء النفس بوجود "التفوّق الوهمي" والتحيّز المعرفي داخلنا، وهو ما يجعلنا نفكّر كثيرًا بالصفات الإيجابية فينا ونتجاهل الصفات السلبية. أي أن الناس في دواخلهم يصدّقون بأنهم أناس أفضل مما هم عليهِ في الواقع. ومجددًا، هذا الشيء، لا يجعل منا أشخاصاً سيئين أو مخطئين، بل مجرّد خدعة يقوم بها عقلنا، ليجعلنا قادرين على الاستمرار في الحياة.

خلال الحرب الأهلية الإنكليزية 1600، كان هناك رجل يدعى توماس هوبز، وقد سبقنا هذا الرجل في تعريف "التفوّق الوهمي"، على الرغم من أنه لم يسك المصطلح وقتها. فتوماس كان يرفض أن يصدّق بأن الناس جيدون وأخلاقيون بطبيعتهم. وبدلًا من ذلك، كان يقول بأنه لولا القوانين الحاكمة والإلزامية، فإن المجتمع سيصبح كابوسًا وحشيًا وغير أخلاقيٍ (مجتمع فوضوي جحيمي مشتعل). مجتمع تكون فيه أنت مستعدًا لتفجير عبّارة مليئة بالأبرياء، فقط لتبقى على قيد الحياة.

يُعرف هوبز اليوم بنظرياته في الفلسفة السياسية حيث تعد أفكاره الأساس الكامل للحضارة الغربية. وأكثر أعماله شهرةً هو كتاب لوياثان (Leviathan or The Matter،Forme and Power of a Common Wealth Ecclesiasticall and Civil). ويحتوي هذا الكتاب على أقواله الأكثر شهرة واقتباسًا، حيث وضع فيه كل تبريراته لوجود الحكومة: "بدون حكومة، لن يكون هناك وجودٌ للمجتمع، وستكون حياة الإنسان وقتها خوفا مستمرا ووجود خطر الموت العنيف وستكون أيضًا حياة انعزالية ووحشية وسيئة وقصيرة".

يقول هوبز إنه بدون السيطرة المنظّمة للحكومة (ما يطلق عليه الجوكر "المخطّطون")، سيصبح الناس حيوانات وقتلة، ولصوصًا.

في القرن السابع عشر، كان هذا مؤثرًا بشكل خاص، وكان السبب الرئيسي هوبز ومن يقتنع بذات الأفكار وهو ما سبب التمسكّ وتبني مثل هذه الأفكار: الحكومة والقانون والنظام كانت أشياء ضرورية للغاية. حقيقة، أغلب ما حصل في حياتك وما يحصل وما سيحصل، هو بسبب الأفكار التي كتبها هوبز، وهذا دون مبالغة قطعًا.

ولو كان هذا المقال هو مساق أخلاقٍ جامعي، فسيكون هوبز والجوكر يتناقلان الأوراق فيما بينهما ويضحكان، لأنهما يتفقان حول نقطة رئيسية، وهي أنه حين يكون الأمر على المحكّ، فإن الناس الذين تقول إنهم "متحضّرون" سيأكلون بعضهم بعضًا.

ولكن لو كان هذا المقال مساق علوم سياسية، سيكون هوبز والجوكر أكثر من سيخوضان في معارك ضد بعضهما بعضًا، ولو امتلك هوبز نفس الأدوات التكنولوجية التي امتلكها بروس واين، فسيكون المشهد مثل الفيلم تمامًا (أو أقل أو أكثر بقليل)، وحينها سيكون لدينا باتمان بلحية بيضاء بدلًا من كريستيان بِل.

دَعَم هوبز الحكومة كفكرة وكوجود خوفًا من الفوضى اللاأخلاقية. والجوكر على النقيض من ذلك، ولأنه سايكوباثي فوضوي، لن يحب شيئًا أكثر من رؤية الحكومة تسقط والفوضى اللاأخلاقية تعم. وهو ما جعله يضع القنابل على العبّارتين في الفيلم، وهو ذات السبب الذي دفعه لقتل مسؤولين حكوميين ومحاولته لإفساد شخصٍ يُشكّل رمزًا للناس وينتظرونه لكيلا يخافوا من أشخاصٍ مثل الجوكر (على الرغم من أننا نخاف فعلًا)، يريد الجوكر دفع مدينة بأكملها نحو الجاذبية الشريرة للجنون والفوضى.

ولكن الجوكر لا يخطئ أبدًا، هناك طريقة وراء جنونه، ومن المزعج حقًا أن يحصل الجوكر على كل هذا الفضل لكونه فقط عميلًا للفوضى، أو لأنه يسعى لإلحاق قسوة عشوائية بالناس. إفساد المدينة (الرمز العظيم للحضارة) من خلال نقلها إلى حالة البدائية الخالية من أي معنى أو أي قواعد، هو ما يريده الجوكر، ولكن عمله الذي يدعي بأنه "غير مخطط" هو عمل عقلٍ مخطط مُدبِّر، فهي خطة منطقية وواضحة ولها غرض محدد (بغض النظر عما سيقوله ألفريد).

تقوم كل الخطة على مبدأ توظيف العشوائية، والنتيجة النهائية هي أن الجوكر نفسه يصبح تجسيدًا للحجة الفلسفية التي تم تطبيقها على أشدّها وبأكثر أشكالها تطرفًا، وتدعم أطروحته العدمية عن طريق الفوضى الناتجة عن أفعاله.

وعلى الرغم من أن باتمان قد هزمه في نهاية المطاف، ولكن بدا أن الجوكر قد أثبت وجهة نظره، فهارفي دينت الذي كان فارس مدينة غوثام الأبيض والذي كان مثالًا حيًا للعدالة والنظام والنُبل، قد حوّله الجوكر إلى ذي الوجهين الذي يقتل لاحقًا 55 شخصاً، اثنان منهما كانا من الشرطة باستخدام وسائل فوضوية عبثية لا معنى لها عن طريق قلب قطعة النقود في يدهِ والتي منوط بنتيجتها أن تحدد مصير من يضعه دينت في رأسهِ بين الحياة والموت. وهذا وحده يرمز إلى فلسفة الجوكر ورسالته لعرقلة إحساس المجتمع المتحضّر "بالتفوّق الوهمي" ويجعله يتواضع من خلال إعادته إلى جذوره الوحشية.


لديَّ رؤية

"هل أبدو لك كشخصٍ لديه خُطّة؟"

والآن، لنغص أعمق قليلًا، فلفهم شخصية الجوكر في فيلم فارس الظلام، علينا أن نفهم أولًا كريستوفر نولان والذي يعد أحد أهم مبتكري هذه النسخة منه. أخرج نولان فيلم Following وفيلم Memento وفيلم Inception. لقد بدأ في الإخراج مستقلًا، وكانت كل أفلامهِ استكشافات مدروسة جيدًا الوجودية، وللأشياء التي تناولها نيتشه وسارتر وكامو.

الوجودية وكما سأشرحها الآن، تؤكّد العبثية الكاملة للقواعد والأخلاق والأعراف باستثناء الأشياء التي نخلقها داخل رؤوسنا لنشعر أفضل حيال وجودنا عديم المعنى بكل الأشكال.

فكرة الوجودية مرعبة، ربما يكون نولان قد غرق في هوليوود ومحتواها الآن، لكنه يدخل من أفكاره الثقيلة هنا وهناك بين الحين والآخر، كما فعل مع الجوكر والذي يعد أحد ألمع إبداعاته حتى الآن.

لقد رأى في الشخصية فرصة ليدخل فيها عناصر الوجودية الرئيسية. وقد كانت هذه الرؤية خطيرة بالنسبة لمجرم كلاسيكي، إلا أنها حققت المراد تمامًا.

على أقل تقدير، فإن شخصية الجوكر توضّح كيف تتحوّل فلسفات المجتمع الأساسية إلى فقاعات في جميع أشكالها المختلفة في الثقافة الشعبية. تصف الفلسفة طرق النظر إلى العالم. وعلى ما يبدو، فإن نولان قد فهم وابتلع الوجودية، وبالتالي، فمن المنطقي أن معتقداته وقيمه سوف تؤثّر على الخيارات التي يقوم بها كمخرج، سواءً كان ذلك بوعي منه أو بدون وعي.


العالم الذي نعيش فيه مضحك وغريب
"أنا أؤمن بأن ما لا يقتلك فإنه ببساطة يجعلك أكثر غرابةً"

هذا الاقتباس أعلاه من أكثر الأشياء الوجودية التي يقولها الجوكر، ولا عجب أن هذا الاقتباس هو أوّل شيء جوهري يقوله الجوكر في فيلم فارس الظلام. ويمكنك أن تقول إن هذه هي فرضيته الأساسية في الفيلم وكل ما يفعله لاحقًا يكون بشكلٍ أو بآخر يدعمها. يدعهما ببعض الأدلة المتطرّفة.

ما الذي يؤمن به الجوكر إذن؟ المثير للاهتمام أكثر هو مصدر هذا الاقتباس. من المؤكّد أنك قد سمعت هذا الاقتباس القصير قبل ذلك، المسؤول عن الصياغة الأولى لهذه الجملة بأشكالها المتعدّدة هو الفيلسوف فريدريك نيتشه.

نيتشه وتلاميذه مثل ألبير كامو وجان بول سارتر والروائي فيودور دوستويفسكي وضعوا مجموعة من الأفكار الغريبة في نهاية القرن الماضي. وهذه الأفكار عارضت تقريبًا كل شيء قيل أو كتب قبلهم وأخافت الكثير من الناس حدّ الموت، وما أخافهم هو اليأس والقنوط الظاهر للوجودية، وعلى الرغم من أن كلمة "يأس" تبدو كلمة ضعيفة لوصف الشيء المخيف، إلا الكلمة وحدها فقط كانت مثيرة للاكتئاب.

وهنا الأمر الحقيقي الذي تحدّث عنه فوق: لقد استحوذت الوجودية على الجميع، ولا بدّ بأنك قد لاحظت ذلك في الآونة الأخيرة، بشكل غير مباشر، في اتجاهات مثل العلمانية والشك ومحو الأمية العلمية. هذه المدونات صارت في كل مكان. وتتبنى فكرة الكونية من دون أي قيم مسبقة (مثل فكرة الإله). فهي بدلًا من ذلك تتصيّد فرصة مطاردة قيمها الخاصّة من العلم والاستكشاف، لا شك في أن معظم الناس يختارون ما نسميه القيم "الجيّدة"، ولكن الكثير منهم يفعلون ذلك معتقدين بأنهم قد اختاروا هذا أو ذاك بأنفسهم وليس لأن أي شخص أو أي شيء قال لهم.

الناس في هذه الأيّام، سواءً كانوا يعرفون ذلك أم لا، يستندون في كثير من آرائهم ومعتقداتهم إلى الأفكار الوجودية – أو على الأقل ردًا عليها. وهذا يحصل لأن حياتهم نمت وتطوّرت حول هذه الأفكار سواءً بوعيهم أو من دونه. ولا مفر من ذلك طبعًا، لأن الكثير من الأفلام التي تعرض للمشاهدة هذه الأيّام تعتمد على الوجودية أيضًا. (إذا كنت لا تصدقني، فشاهد فيلم نادي القتال والمصفوفة ومعنى الحياة لمونتي بايثون وسائق سيارة أجرة، وأحدهم طار فوق عش الوقواق، ويوم غروندوغ ونهاية العالم الآن وحتى فيلم قصّة لعبة).

تسمع الكثير من الناس في هذه الأيام يشكّكون في "القوانين". والمثير للمفارقة أن أصبحت الثورية والشكوكية هي أسلوب حياة لبعضهم، سيكتب النقاد الأكاذيب في عام 2043 عن انتشار الموضوعات الوجودية في جميع أنحاء الأفلام من أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.

حصل الجوكر على شعبيته هذه الأيّام؛ لأنه عبّر عن هذه المثل والقيم الوجودية بطريقة مسليّة. والوجودية هي الموضوع الدارج، لذلك لا عجب أن شخصيته قد نجحت وحقّقت كل هذا النجاح. وهذه طريقة عمل الثقافة الشعبية الآن، فالكثير من الناس يصدقون بما يقوله الجوكر في أعماقهم ولو بجزء قليل. ووصل ببعضهم بموافقته إلى حدّ تأييده.


لماذا الجدية؟
"الطريقة الوحيدة المعقولة للعيش في هذا العالم هي العيش بدون قوانين"

الآن بعد أن استعرضنا ما هي الوجودية، نستعرض هنا بضعة أمثلة محدّدة من المبادئ الوجودية وكيف وضعها فيلم "فارس الظلام"، وخاصّة من خلال شخصية جوكر:


إرادة القوة
لقد كتب نيتشه عن الكثير من المفاهيم حول "الإنسان المتفوّق" وعن "إرادة القوة"، في الوجودية، لا وجود للقواعد، فكيف يعيش الشخص إذن؟ وإذا كانت العبثية صحيحة (سنصل إلى ذلك)، إذن، فالوضع مخيف جدًا، ونحن قد لا نعرف ما يجب القيام به مع حياتنا بعد الآن.

والإنسان المتفوّق هو الفرد الذي سيتغلّب على هذا الخوف والرهبة، وسيكون قادرًا على تحديد قيمه ومعانيهِ وغرضه الخاص من الحياة. سيقرر مسار حياته، من دون أن يتأثر بأي حالٍ من الأحوال من أي مؤثر خارجي. وباتمان، بطبيعة الحال، لديه استعداد للقوّة، ولكن في بعض الأحيان يكافح في هذه الفكرة، ولكن الجوكر قد تشبّع بفكرة الإنسان المتفوّق حتى أخمص قدميه. وقد تبنى إرادته للقوة في العالم (ما يفعله السوبرمان) وحاول أن يفرض على الآخرين هذه القوّة والتغيير في العالم من حوله.

يضع الجوكر باتمان في عددٍ من التحدّيات التي تجبره على التشكيك في ما يعتقد، للتدليل على كسر "القاعدة الواحدة" التي يتشبث بها، وهي أحد الأسباب التي تدعو الناس لمشاهدة هذا الفيلم مرارًا وتكرارًا.

ونبقى نحن عالقون في التشويق حول القرار الذي سيتخذه بروس واين ألا وهو "القتل" وبذلك التخلّي عن القاعدة الوحيدة التي تجعل منه إنسانًا. وباتمان في الواقع يتحوّل إلى شخصية "الإنسان السوبرمان" ويتشبّع بها حينما يتّضح بأنه "غير قابل للإفساد". حيث تشبّث بمبادئهِ وقيمهِ وأعرافه التي يقدّسها هو كفارس. وبالتالي لم يتأثّر بأي فكرة أو أي مؤثّر خارجي.

وهذا هو السبب الذي جعل الفيلم مشهورًا وسيبقيه مشهورًا لفترة طويلة. فالتمسك بمعتقداتنا مهما كانت هو شيء نحب أن نؤمن بهِ. وسواءً كان ذلك بسبب مثالية باتمان أو عدمية الجوكر، يعطينا فيلم "فارس الظلام "الفرصة لمعايشة الأمرين بشكلٍ مباشر.


العبثية
كل شخصية الجوكر تدور حول العبثية، وليس في الأمر أي غرابة حين نرى أن شخصية الجوكر شخصية مهرّجٍ. العبثية ترفض فكرة أن هناك قيمة أو معنى أو غرض في الكون على الإطلاق، ومن الواضح أن الجوكر يتّفق مع هذا، وقد قالها بشكل صريحٍ عدة مرّات. مُجرد التفكير بهذا هو أمر مخيف، أليس كذلك؟ ألا يكون لوجودنا أي هدف أو غرض أبدًا. معظم الوجوديين يستمتعون بهذا إلى حد ما. فبالنسبة لهم، هي فرصة لتحديد قيمنا بأنفسنا، ويمكننا أن نختار أن نكون النوع الذي نريد.

والمخيف بشأن الجوكر، وما يجعل منه شريرًا مرعبًا وفعالا، ليس اعتناقه للعبثية وحسب، بل استمتاعهِ بالفوضى والعنف والتدمير. فالجوكر رجل بذائقة بسيطة يستمتع بالديناميت والبارود والبنزين، وهذه هي الأشياء التي يقدّرها، وهذه هي الأشياء التي يريدها.


شخص مثلي

"أنا لستُ وحشًا، أنا فقط سبقتكم في الوصول للحالة الطبيعية"

وبعد أن رأينا القالب الفلسفي الذي تم صبّ شخصية الجوكر القديمة فيه عن طريق نولان والشركة، الآن سأتحدّث عن سبب أسر هذه الشخصية لنا وحبنا لها. والأهم من ذلك، هل من الصحّي والسليم أن نكون هكذا؟

يعد كارل يونغ من ألمع علماء النفس والمعالجين النفسيين في أوائل القرن الشعرين، وقد تأثر كثيرًا بسيغموند فرويد. وفي حين أن الجدل يحيط نظرياته اليوم، إلا أن فكرة واحدة له لا تزال عالقة والتي يعتبرها معظم الناس صحيحة: كلنا ننهار ونتدمّر بين فترة وأخرى بشكل سيئ.

وأوضح يونغ هذه الظاهرة بمفهوم يسمّى "الظل". الظل هو ذلك الجزء من نفسية الأشخاص الذي يرفضون الاعتراف به. فهو الجزء الذي يريد منك أن تضرب رئيسك في العمل وأن تسرق محفظته. وهو الجزء الذي يريد منك أن تسرق بنكًا مرتديًا قناع مهرجٍ، أو أن تضع أسفل أحد الشوارع العامة صفًا طويلًا من قاذفات الصواريخ. هو ذات الجزء الذي يتحدّث في داخلكم ويريدكم أن ترفضوا كل القواعد والقوانين وأن تصيروا مثل الجوكر.

ووفقًا ليونغ، يجب على الشخص أن يدرك تلك الدوافع السلبية للحفاظ على صحّته العقلية. يجب علينا أن نعترف بالظلام داخلنا ولكن علينا ألا نعطيه المجال ليسود. فعندما لا تعترف بالظل، ففي مرحلة من المراحل سيود وسيحصل على حريته، وسيصبح جزءًا من شخصيتك وسيعود لك ليرعبك ويحطم صورة "التفوق الوهمي" داخلك.

وأحد الطرق التي نستخدمها غالبًا للاعتراف بذلك الظل هو مشاهدة الأفلام وقراءة المجلات المصوّرة والألعاب. أشرار مشهورون ومعروفون بـ "ظلالنا" وحالاتنا البدائية في صورة مسلية لا تحمل أي عواقب غير مرغوب فيها في الحياة والواقعية (طالما بقيت في عالم الخيال). اعترف الآن: ألم تقتل العاهرة وتسرق مالك مُجددًا في سلسلة ألعاب Grand Theft Auto أو المعروفة باسم GTA أو حرامي السيارات أحيانًا؟ وكلنا طبعًا قتلنا الدجاجات في لعبة Counter Strike، أليس كذلك؟

الجوكر بكل بساطة هو مجرّد منفذ للظل في حياتنا. أسر قلوب الملايين وجعلهم يعيشون فساد ظلالهم عن طريقهِ في عالم الخيال. وهذا حصل بالضبط لأن الجوكر يقوم بأشياء نتمنّى لو أننا نقوم بها أحيانًا في أعماقنا، ونحصل على هذه الحركة والحب لما يقوم به من سلوكيات دون أن نؤذي أي أحد حولنا في العالم الحقيقي.


أخيرًا

"الأمر ليس بشأن المال، وإنما لإرسال رسالة"

لقد أعطيتك ما تريد. لقد أعطيتك جولة قصيرة ضمن الأفكار الفلسفية والتأثيرات التي أدّت إلى خلق جوكر والأفكار التي يؤمن بها جوكر نفسه بصدق وبطريقة منهجية في محاولة لجعل الأمر أكثر واقعية. لقد رأينا أيضًا السبب النفسي الذي يجعل شخصية من هذا القبيل قادرة على تحقيق هذا القدر من الشعبية، ولماذا، على الرغم من طبيعته البشعة، لأن هناك جزءاً منا جميعًا يحبّ الجوكر وما يقوم بهِ كفكرة.

أصبح الجوكر في فيلم "فارس الظلام" رمزًا قويًا في الثقافة الشعبية في جزء منه، لأنه يمثّل سؤالًا فلسفيًا يلمس كل واحدٍ فينا. هل نحن حيوانات أخلاقية؟ أم مجرّد حيوانات؟ المثالي فينا يريدنا أن نقف جنبًا إلى جنب مع باتمان وأن نؤمن بالإنسانية، عندما توضع على المحكّ، ستنجح في الاختبار. في حين أن الظل فينا يريدنا أن نقول "تبًا للناس"، وأن نقف جنبًا إلى جنب مع الجوكر لأنه يتيح المجال للفوضى أن تحصل.

وهذا هو السبب الذي يجعل وجود الجوكر ضروريًا في أسطورة باتمان بضرورة وجود باتمان نفسه. فكلاهما محبوسان في حلقة "الين يانغ" التي تمثلُّ الكثير من الثنائيات البشرية: النظام والفوضى، والمعنى والعبثية، والضوء والظل. وكما أعلن يونغ أن الاعتراف بالظل ضروري لنفسية متوازنة حقا، فنحن نحب الجوكر لأنه يذكرنا بحالتنا البدائية، من أجل أن نتواضع بخيالاتنا المتعالية بجرعة من الواقع الوحشي، ولكي نكسر إحساسنا بـ "التفوّق الوهمي "عندما يخرج الأمر من يدنا.


(المقال الأصلي)

المساهمون