بينما يراقب المطرب المغربي سعد لمجرد سيل ردود الفعل وتزايد المشاهدات على أغنيته الجديدة "Let Go"، يبدو الطريق أمامه مبهمًا؛ لا شكّ أن الفنان المغربي سيقع ضحية مقارناتٍ مع نفسه قبل الآخرين، بعد ضربة "المعلم" تلك وأرقامها التي أوصلتها إلى غينيس، ومن المؤكّد أن كل ما ينطبق على الفنانين قبيل إطلاق أعمالٍ جديدة سينطبق عليه أيضًا. على أن هذه ليست عقبات طريقه الوحيدة على كل حال. على الأقل ما دام يمشيه مرتديًا سوارًا إلكترونيًا في كاحله، بسبب قضية الاغتصاب ضدّه التي لم تُحسم نتيجتها بعد، وتعدّدت حولها وعنها قراءات الأغنية الجديدة.
ما نقصده في هذا الصدد هو الحكم القضائي، الذي سيحدّد / أو لا يحدد مكان إقامة لمجرد في السنوات القادمة، وما يترتّب على ذلك، ابتداءً بمسيرته الفنية وانتهاءً بما ستقوله صفحةٌ ما على ويكيبيديا. مع أن هذا لم يمنع مطارق الجمهور، أو جزء منهم على الأقل، من أن تهوي، في كافة الاتجاهات، مصدرةً حكم براءةٍ خاص بها. وهو في الواقع ما سنحاول الحديث عنه، مع الاستعانة بأمثلةٍ شبيهة، يجلس فيها الفنان في قفص الاتهام.
تتعدّد الأسباب التي يقدّمها جمهور لمجرّد ويسوّقها دفاعًا عنه، ورغم اشتراكها في النهاية والحكم، إلا أنها تختلف في الطرق التي تسلكها. وبما أن العبرة كانت وستظلّ في الطريق لا الوجهة، سنركّز اهتمامنا على الطرق، لكون الوجهة/ الحكم لم يتّضح بعد، ولأن الموضوعية أولًا ونهاية هي ما تهمّنا.
ترتكز أولى المرافعات على عامل الجنسية. ووفقًا لها فإن التهمة "ملفقة" لكون لمجرّد مغربيًا، ولكون الاتهام فرنسيًا. يتشابه هذا الدفاع مع آخر طرحه فريق دفاع بيل كوسبي في قضايا التحرّش والاعتداء الموجّهة ضدّه، لكونه أميركيًا من أصولٍ أفريقية. ورغم الاختلاف بين عاملي العرق والجنسية إلا أننا نستطيع تتبّع أثرٍ "هوياتي" للتهمة، يمارس عبره المُهيمِن سلطته على الآخر.
من المنطقي والمعقول والطبيعي أن يُبدي أحدنا نظرات الشكّ تجاه "الغربي"، وأن يرمق مفاهيمه عن العدالة والقانون وغيرهما بنظرات خالية من الارتياح، وليس ذلك إشكالًا يتعلّق بماضٍ استعماريٍ وحسب، بل بالحاضر أيضًا.
لكن لنسأل أنفسنا سؤالًا: ما الذي فعله لمجرّد وجعله عرضةَ لإلصاق التهم؟ تتباين الآراء حول مقدرته الفنية ومستواه –ولسنا هنا لتقييمه- لكن ما يمكن الإجماع عليه أن هذا الفن لم يكن يومًا تحت خانة "كلمات الحق" التي ستسعى حكومة ما لإخراسها. هل القضية إذن تتعلق، وفقط، بجنسيته؟ من الصعب الإجابة بنعم. خصوصًا حين يقضي غالب النجوم العرب إجازاتهم وكثيرًا من جولاتهم مرتحلين بين بلدان القارة العجوز وغيرها، وتفتح أمامهم أبواب المطارات. وإن كانت مسألة الجنسية تعني أناسًا بحق، فهم "غير الفنانين"، الاعتياديين، ممن لا يتقنون ريادة الأعمال، والذين ينالون نصيبهم من الشك والريبة والأحكام المسبقة، من أبواب المطارات حتى أماكن سكنهم وتنقّلهم. أما الفنانون فلا، حتى "الملتزمون" منهم مثل مارسيل خليفة الذي لم يقف أي عائق دون حبّه للتجوال.
وإذا ما أخذنا باحتمالٍ كهذا، فعلينا تصوّر شخصية أكثر خطورة، بعيدة كل البعد عن أمثلتنا هذه، ونبدأ بعدها بتقييم معقولية احتمالٍ كالتوريط. فلننتقل إلى مسلكٍ آخر إذن، ولنلخصه على النحو الآتي: "ما حاجة فنان مشهور/ثري إلى اغتصاب إحداهن أو التحرّش بها؟".
يُبسِط مسلك كهذا علاقة الأشخاص بموقعهم أو منصبهم. فللوهلة الأولى، يبدو منطقيًا أن وصول أحدهم إلى مركزٍ اقتصادي واجتماعي رفيع يكفل له تحقيق ما رغبه أو حلم به قبل وصوله. لكن ما يغفله مسلك كهذا هو التغير الذي سيحصل لاحقًا، بفعل العلاقة بين الموقع وشاغله، أي وببساطة شديدة استحالة بقاء شخصٍ على ما هو عليه حين تتبدّل ظروف محيطه، سواء تغير هذا الشخص للأفضل أو الأسوأ.
ولما كان من المستحيل تأطير هذا التغيّر بقاعدة أو حتميةٍ ما، فإن الفرضية السابقة عن الاكتفاء والعين الملآنة تُصبح غير صالحةٍ كدليل براءة. ويمكننا في هذه الحالة افتراض احتمالٍ آخر، وارد الحدوث بدوره كما يُثبت التاريخ، والقول إن التغير هذا –نحو الأعلى- قد يجعل الفرد الذي وقع عليه، عرضةً لأن يصبح أكثر إيمانًا بقدرته على تخطّي القانون والتعامل بفوقية مع من يراهم أدنى شأنًا، ولا شكّ أن الجنس في هذه الحالة لن يكون استثناءً، بل قد يكون أكثر الجوانب التي يُترجَم عبرها حسّ التملك والسيطرة وضوحًا.
إن موقع الفنان في المجتمع، من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، يسمح لنا بوصفه كموقع قوة وهذا مؤكّد، أما طريقة استخدامها –أو إساءة استخدامها- فتبقى عصيةً على التنبؤ. ويمكن لقصّة منسق الأغاني البريطاني جيمي سافيل أن تدعم ذلك. فاعتمادًا على حالة الشهرة Celebrity Status التي تمتّع بها، وتنظيمه المناسبات الخيرية، استطاع سافيل استغلال عددٍ من الأطفال جنسيًا، ولم تتكشف قصّته كاملةً إلا بعد موته.
الدفع بهذه الحجة وحدها لا يمكن الاكتفاء به، ولما كان من السهل الانطلاق منها في طرحٍ مضاد، يصبح الموضوع رهن الموقف الشخصي من لمجرّد وما يفرضه هذا من اختيار قراءة معينة دون غيرها، لعلاقة الفرد بالقوّة.
وبغض النظر عن الآراء الشخصية لـ نتاج لمجرّد الفني، يبقى رقمه القياسي دليلًا على شيءٍ ما، ولنسمه جودةً فنية لأن الرأي الثالث سينطلق منها. أي إننا إذا ما اتفقنا على توصيف عمله بالجيّد، نستطيع الإجابة على سؤال يذكره بعض معجبيه، بقصد الدفاع، وقبلهم كثيرون في مواقف مشابهة: "كيف يمكن لشخصٍ سيئ-إذا ما افترضناه هكذا-أن ينتج فنًا جيدًا؟"
قد يكون السؤال شائكًا، لأن مفهوم الشخص الجيّد نسبي ويتعرّض أثناء تعريفه للسائد اجتماعيًا وقانونيًا وهما متغيران يختلفان بفعل الزمان والمكان أو كلاهما، لكننا نستطيع تتبّع "بديهياتٍ" عامة يوافق علىها الجميع للوصول إلى إجابة. وفي الحقيقة، فإن الإجابة عن السؤال السابق هي نعم. يمكن للأشخاص السيئين أن ينتجوا فنًا جيدًا.
اعتدنا بفعل عوامل عدّة أن نلحق بالفنان أو المثقّف أو سواهما صفات ومتطلّبات عديدة، مثالية في معظمها، كالالتزام والوعي والتواضع وغير ذلك وطالما ابتدأنا جملًا بـ "الفنان/ المثقف الحقيقي يكون..." وأنهيناها بشتى الصفات. لكن الأمنيات هذه لم تكن عرضةً للتحقق بشكلٍ كامل يومًا، بما يسمح بتحّولها إلى قاعدة، والأهم أنها لم تقف حائلًا على الدوام دون إنتاج فنٍ جيّد.
وربّما نستطيع في هذا الصدد، وإمعانًا في إيضاح التناقض، أن نذكر سجلّ جون لينون مع العنف المنزلي. رجل "السلام" و"الحب لا الحرب"، بل أيقونتهما، يقف سجله هذا، مع عشيقاته أو غيرهن، عكس ما يمكن أن نتصوّره عنه رغم مده "مخيلات" الكثيرين بصورة العالم كما يجب أن يكون، لا كما هو عليه. وربّما بالطريقة ذاتها، أمدّنا نحن بصورته كما أردناها –أو أراد إظهارها-لا كما هي عليه حقًا، بل إن معلومةً كهذه لا تحظى بالشيوع ذاته إذا ما قورنت بباقي الصور عنه.
ينطبق الأمر ذاته على وودي آلن، الذي واجه هو الآخر عام 1992 اتهاماتٍ بالتحرّش الجنسي، بابنته المتبناة. وبغض النظر عن أن نتيجة نهائية لم تُحسم الأمر رغم منعه من زيارتها، فلنجرب العودة إلى يوم صدرت هذه الاتهامات لأوّل مرّة. هل يمكن لأحد أن يتخيل بطل ومخرج فيلمٍ مثل "آني هول" في موضعٍ كهذا؟ ستكون الإجابة لا، غالبًا. لكن، إلى أي حد نعرف آلن حقّ المعرفة؟ كشخصٍ من لحمٍ ودم، لا كممثلٍ أو مخرج لأعمالٍ قد تكون المصدر الأوّل لرسم صورنا عنه.
والمقصد أن محاولة رسم صورةٍ كاملةٍ لأحدهم عبر عمله هي محاولة فيها القليل من الدقّة بحق الشخص والعمل في الآن ذاته. وإذا ما عدنا إلى لمجرّد فإن الحال هو نفسه؛ يُمكن لمغني "لمعلّم"، أيا كانت قيمتها، أن يكون الطرف البريء في المحكمة وضحية فتاة تريد الشهرة أو الابتزاز، ويمكن في الآن ذاته أن يكون عكس ذلك.
وإلى حين صدور تفاصيل أوسع، سواءٌ الآن في قضية لمجرّد أو أينما وُجِد الفنان في القفص متهمًا بخرقه "البديهيات"، يبقى انتظار المعلومات ومن ثم تأمّلها أكثر حكمةً من إطلاق الأحكام التي لا تخلو من أساسٍ صلب يدعمها وحسب، بل يمكن أن تساهم في تكريس القناعة القائلة بأن الجريمة حكرٌ على من لم يعرفوا شبعًا متبوعًا "بالفضيلة وعفة النفس" أو صنعة "تهذّب الطبع" وتعطي صاحبها المركز الاجتماعي والحصانة.