"العربي الجديد" في قرية الروضة السيناوية...دماء المصلين لم تجف بعد

27 نوفمبر 2017
الفزع يسيطر على مخيلة أطفال قرية الروضة (العربي الجديد)
+ الخط -

يقف الطفل السيناوي فرج توفيق ذو الأربعة أعوام على الشارع الفرعي غير الممهد الممتد من طريق العريش القنطرة الدولي ممسكا بلعبته المعروفة شعبيا بـ"النبلة"، بالقرب من الوحدة الصحية الكائنة على المدخل الغربي لقرية الروضة التابعة لمركز بئر العبد في محافظة شمال سيناء والتي شهدت مذبحة ظهر الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني إثر مهاجمة مسلحين مسجد القرية المعروف بجامع آل جرير، ما أسفر عن مقتل 305 أشخاص، بينهم 27 طفلا وجرح 128 شخصاً آخرين، علاوة على حرق 7 سيارات خاصة بأهالي القرية وفقا لما جاء في بيان النائب العام المصري المستشار نبيل صادق.

فرج هو الابن الوحيد لوالده توفيق محمد، والذي قتل في المسجد، كما قال بعد إصراره على الحديث عن "نبلته" التي يعتبرها بمثابة سلاح لقتال الإرهابيين الذين قتلوا والده وكادوا أن يقتلوه، قبل أن يكمل حديثه باكيا: "كنت قاعد جنب أبوي في المسجد ودخلوا علينا، وصاروا يطخوا عالناس وطخوا أبوي وصار الدم يشخلب (يتدفق) من راسه".

لا يفارق مشهد الدماء وصوت الرصاص مخيلة فرج الذي واصل حديثه الممزوج بالبكاء قائلا: "آني خفت ليكتلوني "يقتلوني" وانحشرت في الزاوية، وجانيه صوّب علي البارودة (السلاح) فقلت له أني طني (طفل) ولما جه تاني قال "ناحية أخرى"، قمت شردت وقفزت من الشباك".


توقف الطفل عن الحديث وتركنا مسرعا نحو منزله، حينما مر شاب ملثم ووجه حديثه لمعد التحقيق "إيش بدكم منا، اتركونا بحالنا، ما ضل بالقرية غير الحريم" في إشارة لمقتل رجال القرية داخل المسجد الذي يقع في ساحة خالية من البيوت على جانب طريق العريش الدولي، وفي مقابله زاوية تخص سكان صوفيي القرية، وتقام بداخلها "الحضرات" (مجالس الذكر الجماعية)، وبالقرب منه قرابة خمس سيارات متفحمة أحرقها المهاجمون لمنع سكان القرية من إسعاف ذويهم بحسب شهادات الأهالي.



الرعب يسيطر على الأجواء


بدت شوارع القرية خالية من المارة باستثناء عدد من الأطفال، ما إن اقتربنا منهم حتى غطت الطفلات وجوههن، واكتست ملامحهن بالرعب، في البداية رفضن الحديث، باستثناء إحداهن التي تدعى منى، والتي قالت "عندي 12 سنة وأبوي مات البارحة في المسجد وهو بيصلي الجمعة وما ضل غير أخوي محمد".

أجهشت منى بالبكاء، بينما واصلت حديثها "قتلوا الناس وهم بيصلو، أبوي انقتل بـ 3 رصاصات في راسه ورقبته"، ثم أشارت إلى عدد من النسوة المنتقبات يجلسن إلى جانب جدران أحد المنازل قائلة "شايف النسوان، كل بيوتنا ما ضل فيهن غير النسوان، رجال القرية الشيوخ والشباب و"الطنيات" أي الأطفال، قتلوهم التكفيريين".


في الطريق إلى مسجد "آل جرير" تبدو مئذنته في عنان السماء من بعيد، إذ تظهر من مسافة بعيدة كونه الوحيد في القرية التي يقع في الجزيرة الوسطى فيها بين اتجاهي الطريق الدولي الذي يربط سيناء بمنطقة شرق قناة السويس، ولدى الوصول إلى مكانه، كان عدد من رجال القرية يجلسون إلى جوار جداره الأمامي، فيما يعمل شباب على إخرج السجاجيد الملوثة بالدماء، وبادرنا أحدهم بالحديث "مرحب بيكم لكن غير مسموح التصوير، ما حدا راح يحكي معكم ويا ريت تقدروا ظروفنا وانتوا شايفين الوضع بعيونكم"، الا أن المحرر أقنعهم أنه سيلتقط عددا من الصور لتوثيق الجريمة الإرهابية التي تعرض لها رجال القرية، ما جعلهم يشيرون إلى درج المسجد المضمخ بدماء المصلين، وهم يقولون "دماء الشهداء لم تجف بعد" غير أن مشهد الدم في داخل المسجد كان أكثر "بشاعة"، إذ تحول السجاد الأخضر للمسجد إلى اللون الأحمر الداكن، وتناثرت أشلاء بشرية هنا وهناك من أجساد الضحايا، ضمت عظاما وأجزاء من مخ بشري تناثرت على أرضية المسجد وسط الدماء الغزيرة، بينما استقرت آثار طلقات الرصاص فى حوائط المسجد من الداخل، إلى جانب أكوام من الطلقات الفارغة الملتصقة بكتل متخثرة من الدماء، فيما بدت آثار المجزرة على المنبر والمحراب الذي كانت إلى جواره "طواقي" المصلين، وبعض متعلقاتهم الشخصية التي بقيت بعد إجلاء الضحايا والمصابين، الذين زادت كثافة دمائهم باتجاه الباب الغربي للمسجد، وهو باب ضيق، أمامه من الخارج العديد من بِرَك الدماء، التي من الواضح أنها لأناس تم قتلهم أمام الباب لدى محاولتهم الهروب بعد إطلاق النيران عليهم بصورة كثيفة، وتعرضت أجزاء متفرقة من سجاد المسجد للتمزق بفعل الرصاص فيما تناثر زجاج "الفاترينات" التي تحفظ المصاحف التي غطت الدماء بعضها، فيما تكسرت كراسي كبار السن، وحتى ساعة المسجد أصابها الرصاص وفقا لما وثقه معد التحقيق.



سر إغلاق الشارع المؤدي إلى القرية

يصل عدد سكان قرية الروضة إلى 1500 نسمة، وتقطنها عائلات تتبع قبيلة السواركة إحدى أكبر قبائل شمال سيناء، ويعمل غالبية سكانها من الرجال عمالا وحراسا بشركة النصر للملاحات (حكومية)، فيما يعمل آخرون بحرفتي الرعي والزراعة، وتنتشر حول بيوت القرية المكونة غالبيتها من طابق واحد، مجموعة من العشش (الأكواخ) التي تقيم بها أسر نزحت قبل عام وأكثر من جحيم الإرهاب بمناطق جنوب الشيخ زويد، كما يقول أحمد سالم أحد أهالي القرية والموظف في شركة النصر للملاحات.

وبدا الشارع الرئيسي المؤدي إلى القرية مغلقاً بأكوام من الرمال وجذوع النخيل، إذ أغلقه الأهالي قبل أيام من وقوع المجزرة، بعد تلقيهم تهديدات من تنظيم ولاية سيناء الإرهابي، والذي علق منشورا على جدار الزاوية، يحذر الأهالي من العودة لإقامة الحضرات بالزاوية، وهو ما رفضه الأهالي ممن يتبعون الطريقة الجريرية الصوفية نسبة إلى الشيخ عيد أبو جرير الذي يعد الأب الروحي للصوفية في سيناء، والذي ولد عام 1910 لأبوين من عشيرة الجريرات إحدى عشائر قبيلة السواركة في سيناء، بالإضافة إلى الشيخ خلف الخلفات أحد مشايخ الطرق الصوفية المعروفة في شبه جزيرة سيناء.



الأهالي: لن نتوقف عن طقوسنا


يروي أحمد سالم، أن المجزرة وقعت بعد أن بدأت خطبة الجمعة، وكان الإمام الشيخ محمد عبدالفتاح رزيق يخطب عن مولد النبي، في مسجد ممتلئ بالمصلين الذين فاق عددهم حجم سعته التي تصل إلى 500 مصل، ما دفع الأهالي إلى فرش الحصر خارجه.

ابتلع سالم ريقه ثم التفت خلفه وحوله في قلق بالغ قائلا: "في بداية النصف الثاني من الخطبة، فوجئنا بثلاث سيارات، الأولى دفع رباعى، والثانية ماركة شيفروليه، الشهيرة بـ"الدبابة"، والثالثة ماركة نيسان "ربع نقل"، تمركزت في الجهات الثلاث لأبواب المسجد، وكانت السيارات مغطاة، وفجأة تم كشف الغطاء عن السيارات، وخرج من تحته حوالى 15 مسلحاً، قفز 4 منهم إلى أبواب المسجد بشكل سريع، وألقوا 4 قنابل يدوية، بأركان المسجد الأربعة، وأعقبها إطلاق وابل من الرصاص على رؤوس المصلين وخطيب الجمعة، وحاول كثير من المصلين الهروب بشكل سريع من الأبواب التي يقف عليها المسلحون، إلا أن الرصاص حاصرهم، وأنا هربت من الشباك المجاور لمنبر الإمام، والحمد لله، لم أُصب بشيء، ووقفت بعيداً أصرخ وأترقب ما يحدث".



استغرقت تلك العملية ما بين 20 إلى 30 دقيقة، ومر الإرهابيون بين الضحايا ليطلقوا رصاصة فى رأس كل مَن يشكّون في عدم وفاته، ثم غادروا المكان بعدما أضرموا النيران في كافة السيارات المحيطة بالمسجد، كما قال، بينما تداخل سائق سيارة النقل فيصل قائلا وهو يبكي "مات 12 شخصا من عائلتي، جميعهم أولاد خالي، أعرف عائلات فقدت أكثر أبنائها مثل عائلة سويلم الذين قتل منهم 22 شخصا أشقاء وأبناء عمومة، وهم أكثر عائلة تعرضت للموت".


أضاف: "رغم ما تعرض له أهلنا وأقاربنا لن نتوقف عن الصلاة في المسجد، ولا إقامة الحضرات في الزاوية، وسنقيم الشعائر كل يوم، والبركة في مَن تبقى من الرجال والشباب والأطفال، لدينا طقوسنا التي لن نتوقف عنها ومنها أننا نطبخ كميات كبيرة من الطعام كل يوم ليأكل المارة دون مقابل مادي، وكل رب أسرة يدفع شهرياً 50 جنيهاً لتوضع في الصندوق الذي نمول منه هذه الموائد للمارة، وسنثأر إن شاء الله من القتلة عاجلا غير آجل".