مشافي ليبيا .. "كلاشينكوف" في غرف العمليات

06 اغسطس 2014
تأمين مستشفى الجلاء من قبل مجلس ثوار بنغازي
+ الخط -

أصبح من المعتاد أن تشاهد الكلاشينكوف داخل غرف العمليات في المشافي الليبية، بعد تدهور الوضع الأمني بشدة عقب محاولة انقلاب الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، الوضع السابق أدى إلى هروب الأطباء وأطقم التمريض بعد تزايد الاعتداءات عليهم، وتردي الوضع الصحي.
 
ا
لقتل على سرير المرض
انهيار المنظومة الصحية لم يأت من فراغ، فالأمن الشخصي للطواقم الطبية العاملة في المشافي من (أطباء وممرضين وعاملين) غير متوفر في أغلب مشافي ليبيا التي حضر فيها السلاح، ليصبح من المعتاد أن تجد المريض داخل غرفة العمليات مصطحباً "كلاشينكوف".
"العربي الجديد" قامت بجولة رصدت خلالها عدة مؤسسات صحية، على رأسها مشفى مدينة البيضاء المركزي، المعروف، حالياً، بين الأهالي بـ"مستشفى الثورة"، في نهاية العام الماضي تعاقدت إدارة المشفى مع عدد من الأطباء المصريين، بعد أن ترك عدد من أطبائها السابقين، من جنسيات متعددة، العمل، وعادوا إلى بلادهم، بسبب تعرضهم لاعتداءات متكررة من قبل مرافقين لمرضى، ومخمورين يحملون السلاح، لكن عدم معالجة أصل المشكلة، والاكتفاء باستقدام أطباء جدد أدى إلى تكرار المشكلة نفسها مع طاقم الأطباء المصريين الجدد، فأحدهم طبيب، رفض ذكر اسمه، نظراً لانعدام الأمن في المشفى، روى لنا قصته بالقول "أثناء مبيتي في شقة مخصصة في ملحق المشفى، داهمني اثنان من البلطجية، وهددوني بسلاح آلي، ليسرقوا كل ما لدي، من أموال، وأجهزة كمبيوتر، وهواتف محمولة".

 أما زميله، رفض ذكر اسمه أيضاً، فقال لـ"العربي الجديد": "أثناء الدوام دخل مريض طالباً العلاج، وعندما قمت بتوجيهه إلي القسم المختص بحالته غضب، وظن أنني أرفض معاينته، فضربني بالعلبة المعدنية التي تحتوي جهاز قياس ضغط الدم".

وتابع "لم يعد من المستغرب أن تجد بعض المرضى مصراً على اصطحاب سلاحه الشخصي داخل غرف العمليات، وهو ما دفعني إلى نصح زميل لي كان يعمل معي، بألا يعود من إجازته في مصر، وعدلت ورقة إجازة سابقة بواسطة برنامج "فوتوشوب" لأعود إلى بلدي عن طريق إحدى شركات السفر البري، دون علم إدارة المشفى، كي لا تمنعني من السفر".
ويعتقد طبيب آخر أن حالته أفضل من زميله الذي تعرض للضرب بمؤخرة سلاح آلي كان بحوزة أحد زائري المشفى، وهو ما اضطره  إلى السفر براً، من دون علم إدارة المشفى، لذات الأسباب، وجميعهم استغنوا عن مستحقاتهم المالية بسبب ظروف سفرهم الطارئة.

 
مثل هذه الحالات المتكررة في أغلب المشافي في ليبيا، لاسيما في أماكن التوتر والنزاعات، كمشافي الجلاء، والمركز الطبي ببنغازي، كما رصدناها، لا تعد هي الانتهاك الأكبر في ظل الاعتياد على خبر تعرض شخص للقتل، وهو على سرير المرض في المشفى من قبل أشخاص لهم معه ثأر أو خصومه.


حالة الخفير المصري الذي عمل في منزل الحقوقية الليبية، سلوى بوقعيقيص، والذي كان الشاهد الوحيد على حادثة اغتيالها، من آخر هذه الحالات، إذ تم اختطافه من المشفى، ثم أُعيد إليها بعد قتله، في غياب تام للأمن الذي يعد أهم وأبسط مرافق ومقومات العمل في المؤسسات المشابهة.

مغلق بقوة السلاح
مشفى الجلاء للجراحة والحوادث في بنغازي، والذي يعد من أهم مشافي المنطقة الشرقية في ليبيا، وتستفيد من خدماته الطبية مدن كثيرة في شرق ليبيا، معطل ومغلق منذ ما قبل شهر رمضان، بسبب محاولة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الانقلاب على ثورة 17 فبراير، فيما أسماه عملية الكرامة.

يمكن اعتبار المشفى نموذجاً عملياً لعسكرة المرافق الطبية وإقحامها في الصراعات المسلحة، ما تسبب في إلحاق الضرر بالأطباء والعاملين، فبعد أن كانت قوات مجلس شورى ثوار بنغازي تتولى تأمين وتنظيم الأمور في المشفى ،حاولت قوات تابعة لحفتر السيطرة على المشفى بحجة أن الطرف الآخر يمنع علاج جنوده المصابين في المشفى، ويخشى أن يدخلهم فيتعرضوا للقتل، الأمر الذي أدى إلى تعطيل المشفى وإغلاقه.

"إغلاق المشفى بسبب تردي الوضع الأمني يرجع إلى انتشار السلاح، وعدم وجود مؤسسات أمنية قوية قادرة على مواجهة مثيري المشاكل داخل المشافي، أثناء مرافقتهم للمرضى خاصة في أقسام الإسعاف" يقول عمار محمد عمار مدير إدارة الإعلام بوزارة الصحة في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد".


وتابع عمار أن "أقسام الإسعاف كثيراً ما تشهد إعتداءات تؤدي إلى إقفالها  لفترات طويلة، بما يحرم المرضى من العلاج والدواء"، وهو ما تؤكده أيضاً د.أمل البرغثي أخصائية جراحة الوجه والفكين والأسنان في مشفى الجلاء في بنغازي
وتقول، "الحالة الأمنية داخل المشافي سيئة للغاية، في ظل فرض التشكيلات المسلحة لنفسها بالقوة، بحجة تأمين المشافي وهو ما لا يلاقي قبولاً من الطبيب والمريض علي حد سواء"، وتتابع"فوضى انتشار السلاح مسؤولة عن الاعتداءات على الأطباء أثناء عملهم، حتى داخل غرف العمليات".

ويبدي الدكتور مصطفى الدعيسي طبيب التخدير في مشفى الجلاء في بنغازي قلقه من تدهور الخدمات الطبية في المنطقة الشرقية بشكل "مرعب"، على حد وصفه قائلاً "لم يعد خافياً على أحد أن مشافي المنطقة الشرقية تمر بأزمة حقيقية، حيث لا يوجد مشفى بإستطاعته أن يغطي الفراغ والعجز الكبير في الخدمات الطبية الناتج عن إقفال مشفى الجلاء، خاصة في تخصصات الإسعاف والحوادث".

أبواب مستشفى البيضاء مفتوحة على مصراعيها بلا رقيب (العربي الجدييد)
















ترويع للعاملين
الفوضى الأمنية السابقة دعت مركز بنغازي الطبي إلى مطالبة المراجعين وذويهم بعدم الدخول إلى المركز أو غرفة الطوارئ وهم يحملون أسلحة، في نداءات متكررة عبر صحف محلية وشبكات التواصل الاجتماعي، فالأطقم الطبية الأجنبية التي تمثل 70% من العناصر الطبية والتمريض، بحسب المركز "يُرهبهم السلاح"، وهو ما يتسبب في فرار العمالة الأجنبية، في وقت يعاني فيه المركز من نقص في العناصر الطبية، كما يُعاني إزدحاماً وضغطاً كبيرين جداً، بعد إغلاق مشفى الجلاء في بنغازي، وهو ما نتج عنه نقل الحالات إليه .
"الحالة الأمنية السيئة والمتردية في جميع قطاعات الدولة لا يستثني منها قطاع الصحة، فبغياب دولة القانون، وانتشار السلاح بين الناس، تمادى البعض في خرق القانون والتطاول على الأطباء في أماكن عملهم" يقول الدكتور سالم لنقي استشاري جراحة العظام في مركز بنغازي الطبي لـ"العربي الجديد"، ويتابع "وصل الاستهتار إلى غرف الطوارئ التي تمت استباحتها، مما دفع كثيراً من الأطباء إلى العزوف عن أداء أعمالهم في كثير من الأحيان، لخوفهم على سلامتهم و أمنهم".


وبحسب الدكتورة ماجدة إشتيوي طبيبة المختبرات، في مشفى الجلاء في العاصمة طرابلس، والناشطة الإعلامية، فإن كل المشافي في هذه الفترة مسيطر من قبل من وصفتهم بـ"الهمج".
وتقول "بعضهم يتحجج بأن مبنى المشفى يقع على أرضهم، وهم أَولى بالإستفادة منه، فيتحكمون بإدارة المشفى بقوة السلاح، ينصّبون من يروق لهم مديراً للمشفى، ويقيلون، ويعينون بقوة السلاح".

وتتابع "تكونت، للأسف، عصابات في كل مشفى تضرب المدراء والأطباء والممرضين وتروعهم، وتختطف، وتسرق السيارات، وتقتل. وعلى الرغم من قلة عددهم وكونهم معروفين بالاسم، وقُدّمت فيهم الكثير من البلاغات، إلا أنه ما من مجيب، لأن لهم معارف في هذا المكان أو ذاك".

وقال عمار محمد عمار مدير إدارة الإعلام في وزارة الصحة "التدهور الأمني في المشافي وصل إلى درجة أن هناك من يقتحم غرفة العمليات بقوة السلاح ليحضر عملية جراحية لقريب أو صديق له، مما قد يؤدي إلى نتائج كارثية".

وعي غائب وحكومة عاجزة
ويرجع الدكتور  الدعيسي تردي الأوضاع الأمنيه في المشافي إلي نسبة الجهل المرتفعة بين المواطنين، والذي أدى بدوره إلى ما آلت إليه الأوضاع الأمنية. في حين يرى مدير إدارة الإعلام في وزارة الصحة أن المخرج من الوضع المتردي بيد المواطن فهو صاحب التصرف الغير المسؤول، بالدخول إلى المشفى حاملاً السلاح".

 
ويذكر الدعيسي أن وزارة الصحة خاطبت كل الجهات الأمنية من أجل توفير قوات تحمي المشافي، لكن التجاوب ضعيف جداً.

اللافت للنظر أن ليبيا تعاني من نقص في الكادر الطبي، واستمرار تناقصه في وقت حددت بعض الإحصائيات غير الرسمية عدد الأطباء الليبيين المقيمين في الخارج بحوالى 5000 طبيب في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول الخليج العربي وبعض الدول الأخرى.

وعن مدى توفر إحصائيات دقيقة تشخص الحالة الأمنية في المشافي قال عمار محمد عمار مدير إدارة الإعلام في وزارة الصحة "ليس هناك إحصائيات لدى الوزارة ولكن لا يكاد يمر يوم بدون التعدي على عنصر طبي، وتتمركز هذه الخروقات غالباً في مدينتي طرابلس وبنغازي، كون المدينتين أكبر المدن الليبية، وترتفع فيهما الكثافة السكانية، كما أن أكبر مشافي البلاد موجودٌ فيهما، وصلت التعديات حد إقفال بعض المستشفيات أما أقسام الإسعاف فإقفالها متكرر بسبب التخريب في الأجهزة التي كلفت الدولة ملايين الدنانير".
بعض الإحصائيات غير الرسمية قام بها ناشطون،  تواصلت معهم "العربي الجديد"، تتحدث عن وجود 1539  مرفقاً صحياً في ليبيا (96 مشفىً، و37 مصحة، و15 عيادة مجمعة و1355 مستوصفاً ومركزاً صحياً)  العديد منها مغلق بحجة الصيانة أو بسبب تردي الأوضاع الأمنية لفترات طويلة تتجاوز العام، وهو ما يدفع بآلاف الليبيين إلى السفر إلى الخارج للاستشفاء، في تونس ومصر التي يختارهما متوسطو الدخل، أو أوروبا التي يسافر إليها الموسرون.