مراوغة الموت... النظام السوري وروسيا لاحقا المدنيين حتى المغارات والأقبية

إدلب

أحمد حاج بكري

أحمد حاج بكري
أحمد حاج بكري
صحافي سوري
16 أكتوبر 2023
مراوغة الموت... لماذا يتتبع النظام المدنيين إلى المغارات والأقبية؟
+ الخط -

يجيب تحقيق "العربي الجديد" عن سؤال، لماذا لم يتمكن السوريون من تفادي عمليات القصف التي تستهدف المدنيين منذ بداية الحرب وحتى اليوم؟ إذ فشلت محاولاتهم في الاحتماء بالأقبية والمغارات والأنفاق التي حفروها.

- يعاني الثلاثيني السوري محمد جمال حتى اليوم من آثار الإصابة في قدمه جراء قصف جوي نفذته قوات النظام السوري في فبراير/شباط عام 2015، خلال استهداف الغوطة الشرقية بريف دمشق قبل أن يستعيد سيطرته عليها، ويروي جمال لـ"العربي الجديد" تفاصيل الحادثة قائلا: "اعتدنا على أصوات القذائف وقصف الطائرات اليومي في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2016، إذ لم يمر يوم دون وقوع قصف مدفعي من قواعد جيش النظام المتمركز على سفح جبل قاسيون شمال العاصمة، وتنفيذ هجوم جوي واحد على أقل تقدير"، "ولم يكن بإمكاننا الاحتماء بأي شكل، فقط نرتمي أرضا ونحاول حماية منطقة الرأس، أو الوصول لأقرب مكان نتوقع أنه آمن، مثل مداخل الأبنية أو الأقبية".

وضاعف انعدام الأماكن الآمنة والملاجئ في المدن السورية، خاصة التي استهدفتها الضربات الجوية والقصف المدفعي مثل ريف دمشق، وحمص، وإدلب، وحماة، وحلب، حجم الوفيات المرتبط بالنزاع حتى وصل عدد القتلى الذي تم توثيقه إلى 350.209 أشخاص، في الفترة الممتدة بين مارس/آذار 2011 ومارس عام 2021، بحسب مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، ويكشف التقرير المنشور على موقع الأمم المتحدة في 24 سبتمبر/أيلول 2021 عن تسجيل أكبر عدد من عمليات القتل الموثقة في محافظة حلب، حيث قُتل 51.731 شخصا.

وصعد نظام الأسد وروسيا هجماتهما من جديد على شمال غرب سورية منذ 4 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبلغ عدد الهجمات حتى 8 أكتوبر الجاري 148 هجوما، من بينها 74 عبر قصف مدفعي، و7 غارات جوية، و59 عبر راجمات الصواريخ، وواحدة من خلال صاروخ مزود برأس حربي عنقودي، واستهدفت الهجمات 50 مدينة وبلدة، وراح ضحيتها 46 شخصا وجُرح 213، بحسب بيانات منظمة الخوذ البيضاء (إنسانية تقوم بأعمال الدفاع المدني) والمنشورة على صفحتها الرسمية على موقع فيسبوك، في 10 أكتوبر الجاري.

مراوغة الموت

تقع مجازر المدنيين السوريين نتيجة تكتيكات عسكرية مقصودة اتبعها نظام الأسد وحليفته روسيا خلال الأعوام الماضية لإيقاع أكبر قدر من الخسائر، كما يؤكد منير مصطفى، نائب مدير الخوذ البيضاء عبر رصد الهجمات على المدنيين منذ 12 عاما، قائلا :"لا يمكن وصفها إلا بـ "الممنهجة"، ما يصعب من الاحتماء منها أو تجنبها، وجميع محاولات الاحتماء هي مراوغة للموت لا أكثر، إذ إن تجارب المدنيين السابقة للاحتماء تثبت ذلك وأغلبها غير مجدية.

لجأ السكان في شمال غربي سورية إلى حفر مغارات للاحتماء بها

واتبعت روسيا أسلوبين أساسيين متكاملين في هجماتها على المناطق السكنية أولهما الصدمة، وتركز فيه على شن هجمات تستهدف إيقاع أكبر عدد من الضحايا بهدف التهجير لإفراغ تلك المناطق، أما الأسلوب الثاني الأبشع فيعرف بالأرض المحروقة، إذ وظفت روسيا ترسانة هائلة من الأسلحة، منذ تدخلها المباشر في سورية في سبتمبر/أيلول عام 2015، وارتفع حجم الهجمات الجوية بشكل كبير، ودعمت القدرة النارية لنظام الأسد وتغيرت بالتالي خريطة السيطرة العسكرية وما تبعها من قتل وتهجير ممنهج للسوريين، بحسب مصطفى.

الصورة
معرة النعمان
صورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية عام 2020 تبين الدمار الشديد الذي خلفه القصف الروسي في مدينة معرة النعمان بإدلب (المصدر: الشبكة السورية لحقوق الإنسان)

ما سبق، يؤكده فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قائلا لـ"العربي الجديد": "العمليات العسكرية للنظام وروسيا كانت تستهدف المدنيين بشكل ممنهج للضغط على الفصائل العسكرية، كون معظم مقاتلي المعارضة من أبناء الأحياء نفسها فهم ليسوا جيوشا منظمة بل معظمهم مدنيون حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم وحماية عائلاتهم"، مؤكداً رصدهم وتوثيقهم لأدلة على استهداف المدنيين بشكل متعمد من خلال متابعتهم ومراقبتهم للعمليات العسكرية خلال السنوات الماضية، ومن بين تلك الوقائع قيام القوات الروسية وقوات النظام بقصف الأحياء الشمالية من مدينة خان شيخون في ريف إدلب عام 2019 رغم أنها بعيدة عن خط الاشتباك، إذ كانت المعارك العسكرية حينئذ دائرة على الجبهة الجنوبية للمدينة، وهذا يدل على أنها أرادت من وراء القصف استهداف المدنيين وتدمير المنازل للضغط على الفصائل، وحصل "العربي الجديد" على صور ملتقطة بالأقمار الصناعية في 2 أغسطس/آب 2019 لمدينة خان شيخون تكشف تعرض 220 نقطة فيها مبانٍ سكنية لدمار كبير، أي أن 35% من مساحة المدينة مدمرة بشكل كامل، و40 % منها مدمرة بشكل جزئي، ما يعني أن 75 % من مباني المدينة طاولها الخراب بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان والتي وثقت مقتل 1012 مدنياً، بينهم 272 طفلاً، و171 سيدة وُتشريد 630 ألف مدني، جراء القصف على يد القوات السورية والروسية، وكل هذه المعطيات تؤكد على انعدام أي فرصة للمدنيين في النجاة وغياب أي إمكانية للاحتماء من القصف كما يقول عبد الغني.

الصورة
خان شيحون 1
صورة أقمار صناعية تبين حجم الدمار الذي لحق بالأحياء السكنية في مدينة خان شيخون بإدلب عام 2019 (المصدر: الشبكة السورية لحقوق الإنسان)

 

ملاحقة المدنيين في الملاجئ والأقبية

لجأ السكان في شمال غربي سورية إلى حفر مغارات في المناطق الزراعية في محاولة لتأمين أماكن يمكن اللجوء إليها والاحتماء بها، كما أن أهالي الغوطة الشرقية قاموا قبل سيطرة قوات النظام وروسيا، باستخدام الأقبية وحفروا أنفاقا بين البنايات السكنية القريبة، لاستخدامها في التنقل من دون تعريض أنفسهم للخطر ونقل المياه والطعام والدواء، إذ إن التحرك عبر الطرق يرفع احتمال إصابتهم بالقصف، بحسب ما رصده الدفاع المدني السوري.

استهدفت الغارات الأقبية والمغارات التي لجأ إليها المدنيون

لكن سرعان ما تحولت هذه المغارات والأقبية إلى قبور للسكان نتيجة الهجمات المركزة، بحسب مصطفى، إذ وثقت فرق الدفاع المدني عبر استجابتها لعشرات الهجمات التي استهدفت أقبية كانت ملاجئ للمدنيين كما حصل في ناحية عربين شمال شرق دمشق، عندما استهدف طائرات روسية قبوا في 22 مارس من عام 2018 بقنابل النابالم الحارقة المحظور استخدامها دوليا في المناطق السكنية، والتي يشكل البنزين والنفتالين وبالميتات (الصوديوم والألمنيوم) أهم المكونات الأساسية فيها، كما يضاف لها الفسفور، ما أدى لمقتل 40 مدنيا أغلبهم أطفال، وفي نفس العام استهدفت الطائرات الروسية بغارة جوية مغارة لجأ إليها المدنيون هربا من الهجمات بقرية معرزيتا في محافظة إدلب، ما أدى لمقتل 8 مدنيين من عائلة واحدة، بينهم 5 أطفال وامرأتان، وفق مصطفى.

ولم يتواجد في سورية أي مكان آمن، حتى المدارس والمشافي تعرضت للقصف كما تؤكد سمر حجازي، الناشطة والمتطوعة مع منظمات لتأمين المدنيين، مشيرة إلى أن المدن السورية كاتت تخلو من الملاجئ قبل الحرب، وفي حلب على سبيل المثال، ومع تصعيد روسيا هجماتها الجوية عام 2015 حاول المتطوعون تنفيذ مشروع لتجهيز أقبية بالفرش والمواد الغذائية، لاستخدامها كملاجئ، لكنها لم تكن كافية، ولم يتمكن المدنيون من اللجوء إليها بسبب عدد الغارات الجوية الكبير، كما أن الناس كانت تخرج للعمل حتى تجد قوت يومها وتطعم أولادها، ولا يمكنهم الاحتماء بالأقبية طوال الوقت، خاصة أن الهجمات الجوية كانت تنفذ كل ساعة على أقل تقدير ما يعني أن كل ساعة يجب أن يتوجه الناس للأقبية، وهذا لم يكن ممكنا حتى تولدت لدى السكان حالة من عدم المبالاة بالقصف بعد أن اعتادوا عليه. وهو ما يعبر عنه محمد جمال بقوله "لو سكنت في الأقبية يمكن أن تموت بالهجمات الكيماوية، ولو سكنت في الطوابق المرتفعة يمكن تفقد حياتك بالهجمات المدفعية والجوية".

وزاد من تعقيد عملية حماية المدنيين توظيف روسيا لأكثر من 320 نوعا من السلاح في سورية بحسب ما رصده "العربي الجديد" عبر بيانات وزارة الدفاع الروسية، "حتى أنها في كل مرة تطور أو تعدل سلاحا أو ذخائر تنشر مقاطع مرئية لهذه الأسلحة التي تفتك بالمدنيين، من أجل ترويجها وهو أحد أهدافها من حربها"، كما يقول مصطفى.

استهداف التجمعات المكدسة

يتبع نظام الأسد والروس أسلوب تركيز القصف الجوي والمدفعي على مناطق محددة لإجبار سكانها على النزوح منها، والتجمع في مناطق معينة ما يسهل استهدافهم، بحسب ما وثقه الدفاع المدني السوري. وهو ما يطلق عليه "التكديس"، بحسب المقدم أحمد خليل المنشق عن جيش النظام والمقيم في تركيا حاليا، قائلا أن النظام وروسيا أجبرا فصائل المعارضة على القبول بشروط روسيا في عدة مناطق عبر الضغط عليهم بقصف المناطق ذات الكثافة السكانية العالية بعد نزوح السكان لها، وأي عملية قصف كانت تؤدي لعدد كبير من المصابين والقتلى، وتصل الفصائل العسكرية لحالة من العجز عن حماية المناطق التي تسيطر عليها بسبب القصف والغارات الجوية التي لا تتوقف، وهو ما يعقد عمل السلطات المحلية والطبية ويصعب تقديم الخدمات اللازمة لهذا العدد الكبير من المدنيين ووقع في الغوطة وحلب ودرعا وريف محافظة حمص بحسب حجازي.

الصورة
التكدس
تشكل تجمعات النازحين هدفا للغارات الجوية الروسية (العربي الجديد)

ويضاف إلى ما سبق نتائج الزلزال الذي ضرب قضاء بازارجيق في ولاية قهرمان مرعش، جنوبي تركيا، بتاريخ 6 فبراير 2023، وامتدت تبعاته إلى شمال غرب سورية المكدس بالنازحين، ما أسفر عن خلق موجات نزوح جديدة إلى مراكز المدن والمناطق البعيدة عن مركز الزلزال، لتتحول إلى أهداف للهجمات التي يشنها النظام في أكتوبر الجاري، ومع استمرار الهجمات العنيفة وتصعيد القصف، تشهد عدة مدن وبلدات في ريف إدلب وفي ريف حلب الغربي حركة نزوح للأهالي، بينما ترزح أخرى تحت النيران لعدم قدرتها على النزوح وعدم توفر أماكن آمنة تؤويهم بحسب بيان أصدرته الخوذ البيضاء، ومن بين الضحايا عمار البيوش الذي دمر الزلزال منزله في سلقين فاضطر للانتقال إلى مركز مدينة إدلب مع عائلته، إذ كانت المنطقة هادئة ولا تتعرض للقصف منذ فترة، لكن هذا الهدوء تبدد ليتعرض منزل البيوش للقصف في 8 أكتوبر، في حين جرى استهداف المشفى الوطني في المدينة، كما قال لـ"العربي الجديد"، لا نعلم أين نفر؟

صعوبات تعترض إنشاء الملاجئ

تفتقر معظم المناطق السورية إلى وجود ملاجئ مخصصة لحماية المدنيين، ولم تكن ضمن أولويات نظام الأسد قبل بدء الثورة رغم أنها تعد من أهم مقومات البنية التحتية، وبعد اندلاع الثورة دمر قصف النظام ما كان قائماً من مقومات ما حال دون إنشاء الملاجئ، "ناهيك عن تحويل أماكن الإيواء تلك إلى هدف ثابت للنظام وروسيا لقصفه ومنع الناس من الالتجاء إليه أو حتى استهدافهم بداخله لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى امتناع المدنيين عن التوجه إلى الملاجئ في حال وجودها بسبب الخوف من استهدافهم، بخاصة بعد استخدام روسيا القنابل الارتجاجية والأسلحة المستخدمة لضرب التحصينات العسكرية والتي لن يكون بمقدور الملاجئ الصمود ضدها حتى لو كانت مجهزة لتفادي هذه الهجمات"، بحسب مصطفى. 

وقصفت طائرات نظام الأسد ومقاتلات روسية، في سبتمبر/أيلول 2016 الأحياء التي سيطرت عليها المعارضة وقتها شرقي حلب بنوع من القنابل شديدة التفجير والاختراق، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات بينهم عائلات كاملة قضت تحت ركام منازلها، وأكدت مصادر في المعارضة السورية المسلحة أنها كانت المرة الأولى التي تقصف فيها طائرات الأسد وروسيا هذه القنابل. 

ويحاول متطوعو الخوذ البيضاء تخفيف الأذى على المدنيين قدر المستطاع من خلال ابتكار بعض الطرق لتحذيرهم، أبرزها خدمة الراصد القائمة على إرسال تنبيهات سريعة عبر قنوات التلغرام الخاصة بالخدمة خلال ثوانٍ لدى رصد حركة الطيران الحربي، كما يسعى فريق مرصد سوريا إلى نشر تعليمات السلامة عبر صفحته على فيسبوك، لإرشاد الناس إلى التعامل مع الهجمات لتخفيف الأضرار أثناء القصف وبعده.

ويبين المهندس مصطفى بديع، عضو المجلس المحلي للمناطق التي سيطرت عليها المعارضة في اللاذقية، أنهم قبل التدخل الروسي حين كانت المعارضة تسيطر على 130 قرية في ريف اللاذقية، كان المجلس مسؤولاً عن إدارة هذه القرى، لكنه لم يبنِ ملاجئ للمدنيين بسبب تسخير كل عمله لتوفير الاحتياجات الأساسية للسكان، قائلا إنه "عندما لا يتوفر الماء ولا الكهرباء ولا الخبز لا يمكنك إقناع السكان بالتوجه للملاجئ، الجميع يريدون توفير الطعام لأسرهم"، مؤكدا أنه "لا مناطق آمنة في سورية، إنما توجد مناطق لم تتعرض للقصف حتى اليوم، هذا هو الوضع بكل بساطة"، ويشير بديع إلى أن مقار المجالس لم تسلم حتى من القصف مثل مجلس محلي ريف اللاذقية الذي استهدف ومستودعاته عدة مرات.

ذات صلة

الصورة
سورية: محاولات لإنقاذ طفل عالق في بئر 8 يونيو 2024 (إكس)

مجتمع

أعلنت فرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) أنها بدأت عمليات إنقاذ طفل عالق في بئر في قرية تل أعور غربي محافظة إدلب، شمال غربيّ سورية.
الصورة
عائلة غنام في عزمارين السورية تعيش ألم الزلزال (عامر السيد علي/ العربي الجديد)

مجتمع

مضى عام على كارثة الزلزال الذي ضرب شمال غرب سورية والجنوب التركي، وخلف معاناة لدى الناجين منه، خاصة العوائل التي فقدت أفراداً منها.
الصورة
نزوح جديد لسكان مخيم أهل سراقب شمال غرب سورية (عدنان الإمام)

مجتمع

غادر نازحو مخيم "أهل سراقب" في ريف إدلب شمال غربي سورية، مخيمهم من دون رجعة، إلى مخيم جديد، اليوم الاثنين، بعد أن أحرقت قنابل الطائرات الحربية مخيمهم وتسببت بمقتل 5 من سكانه وجرح آخرين قبل عدة أيام.
الصورة

منوعات

على وقع صوت الموسيقى الإلكترونية، تجمّع مئات الشباب الأوكرانيين فوق أنقاض منازل تعرضت للقصف في عدد من القرى في شمال البلاد في نهاية الأسبوع الماضي للاحتفال على طريقتهم.