يضطر فلسطينيو الداخل المحتل إلى الحصول على قروض من السوق السوداء، بفوائد مركبة، في ظل تمييز مالي إسرائيلي يضعهم تحت رحمة عصابات الجريمة المنظمة والتي تضاعف قيمة ديونهم عند التعثر، وتستهدف أملاكهم وحياتهم وأسرهم.
- اضطر الخمسيني الفلسطيني محمد محمود، من بلدة عرعرة في الداخل المحتل، لاقتراض 300 ألف شيقل (90 ألف دولار) من إحدى عائلات الإجرام، (تعريف تعتمده شرطة الاحتلال لأسر متورطة بكثافة في القضايا الجنائية)، لسداد ديون نتيجة شيكات مرتجعة خلال عام 2010، لكن ومع نهاية عام 2016 وصل مجموع ما ترتب عليه من قروض لأكثر من عائلة إلى 9 ملايين شيقل (2.7 مليون دولار)، كما يؤكد في إفادته لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أنه كان يراهن على سداد القرض الأول خلال أشهر قليلة، لكنه وجد نفسه في دائرة مفرغة لم يستطع الخروج منها.
كان القرض بالنسبة لمحمود حدّاً فاصلاً بين مرحلتين في حياته، اضطر في الثانية للتخلّي عن مصنع الخياطة الذي يملكه، ومستوى معيشته المرتفع. ولم تجد عائلته الممتدة خياراً لتخليصه من الأزمة، التي كاد يدفع حياته ثمناً لها، سوى تقسيم المبلغ الإجمالي على أفرادها، الذين يدفعون مبالغ شهرية منذ خمس سنوات لجهات عدة، وفق إفادة ابن عمه لؤي، والذي تعهّد بدفع مليون ونصف مليون شيقل. ويطلق على ظاهرة "تجارة الربا" واسعة الانتشار في الداخل المحتل مسمّيات عدة، بحسب وليد حداد، المحاضر في علم الجريمة بجامعة تل أبيب، الذي أشار في إفادته لـ"العربي الجديد" إلى أن التسمية الشائعة في الداخل المحتل هي "قروض السوق السوداء"، وتعدّ من أهم الموارد المالية لعصابات وعائلات الإجرام والتي تطلق عليها القروض غير البنكية".
وتتزايد قيمة المبالغ المستحقة على المقترضين من عائلات الإجرام بسبب دفع المقترض فائدة شهرية تتراوح بين 10% و15% على المبلغ الإجمالي، كما يوضح لـ"العربي الجديد" الأكاديمي وائل كريّم أستاذ الاقتصاد السابق في جامعة تل أبيب، وهذا على عكس البنوك التي تأخذ فوائد سنوية فقط، فمثلاً إذا اقترض شخص 1000 شيقل فإنه يضطر إلى دفع 100 شيقل شهرياً، بمعنى 1200 شيقل فوائد شهرية خلال عام، بالإضافة إلى أنه مضطر إلى دفع قيمة القرض الأصلية عقب انتهاء مدة الاتفاق، وهو ما لا تستطيع أي مصلحة تجارية أن تتكيّف معه، فتدخل في دوامة من القروض تحت تأثير الابتزاز وتهديد السلاح.
فرد يخطئ وعائلة تجني الرصاص
في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، أطلق مسلحون النار على منازل تعود لعائلة الهندي في مدينة اللد شمال غرب القدس، والتي اكتشفت أن ابنها المعتقل في قضايا جنائية في السجون الإسرائيلية كان قد اقترض من إحدى "عائلات الإجرام" في المدينة مبلغ مليوني شيقل في يناير 2020، تضاعف خلال عام إلى 10 ملايين شيقل، كما يوضح الوجه العشائري أبو علي والذي ينتمي إلى نفس العائلة المقرضة، وهو من الذين تدخلوا لحل المشكلة، مبدياً رغبته في عدم الكشف عن كامل اسمه خوفاً من عرقلة جهود الوساطة.
ويقول أبو علي في إفادته لـ"العربي الجديد" إن عائلة المقترض عانت من هجمات المقرضين الذين استخدموا القنابل اليدوية والرشاشات من أجل الضغط عليهم لتسديد المبلغ المذكور، فعرضت عليهم ثلاثة منازل ومحلاً تجارياً مقابل إيجاد تسوية للقرض المستحق على الابن المعتقل، وهو ما رفضه المقرضون باستثناء فكرة السيطرة على المحل التجاري، وطالبوا بسداد باقي القرض نقداً، فاضطر اثنان من إخوة المقترض للدخول في دوامة اقتراض أخرى من أجل حلّ القضية.
الجهاز البنكي الإسرائيلي يمارس التمييز في حق فلسطينيي 48
لكن بعض العائلات تجد صعوبة في الوقوف إلى جانب أبنائها، كما حدث مع الثلاثيني إبراهيم من مدينة الناصرة، والذي اضطر للحصول على قرض بقيمة 5000 شيقل خلال العام الماضي، بعد تعرضه لوعكة صحية منعته من الاستمرار في العمل. أصبح إبراهيم مطلوباً لعائلة الإجرام بعد تأخره في تسديد إحدى الدفعات (الفائدة) والتي تبلغ 20% من قيمة المبلغ الأساسي، وبسبب رفض عائلته الوقوف إلى جانبه، نظراً إلى أنه هذا يهدّد حياة أفرادها، حاول الانتحار بتناول 10 حبات دواء منوّم، كما يتضح في إفادته لصالح مشروع بحث "العنف والجريمة بين الشباب العرب في الداخل" غير المنشور بعد والذي أعده 8 باحثين من "جمعية الشباب العرب - بلدنا".
السياسات الإسرائيلية تشجّع اقتصاد الإجرام
"يصل نطاق المعاملات المالية غير المصرفية إلى مئات الملايين من الدولارات في ظل عدم وجود تنظيم مناسب للظاهرة، وهو ما يشجّع أحد أنماط عمل المنظمات والعائلات الإجرامية المتمثل بتقديم قروض بفوائد عالية تتجاوز في الغالب ما يسمح به القانون، واستخدام العنف والتهديد في تحصيلها"، كما يوضح المراقب العام لدولة الاحتلال في دراسة صدرت بتاريخ 11 يوليو/ تموز 2015 عن مركز البحوث والمعلومات، قسم الإشراف على الميزانية في الكنيست، وجاءت تحت عنوان "وصف وتحليل سوق القروض غير المصرفية"، وتضمنت كذلك تقريراً صادراً عن شرطة الاحتلال تعترف فيه بأن "قروض السوق السوداء تغذي بشكل كبير اقتصاد الجريمة".
ويؤكد الأمين العام لحزب التجمع الوطني وعضو لجنة المالية في الكنيست سابقاً، امطانس شحادة، أن التباين في حجم الخدمات المالية بين الإسرائيليين والفلسطينيين في دولة الاحتلال هو العامل الأهم الذي يضطر كثيرين للتوجه إلى قروض السوق السوداء، ويتضح ذلك في دراسة نشرها "بنك إسرائيل" عام 2017 والتي تبيّن من خلالها أن نسبة فلسطينيي الداخل الحاصلين على قروض إسكان 2% فقط من إجمالي قروض الإسكان في دولة الاحتلال، وهي قيم مالية ضئيلة مقارنة بنسبتهم لعدد السكان، والتي تبلغ 21.4%.
فوائد شهرية تتراوح بين 10% و15% على إجمالي مبالغ القروض
ويبيّن أستاذ الاقتصاد كريّم أن هناك صعوبة في حصول فلسطينيي الداخل على القروض مقارنة بالإسرائيليين، لأن الجهاز البنكي الإسرائيلي يتعامل بحذر وشكّ تجاه طلبات القروض المقدمة من الفلسطينيين، وهذا من شأنه إطالة مدة إجراءات الحصول على القرض إن تمت الموافقة عليه، وهناك من يحتاج إلى المال بشكل مستعجل لإنقاذ تجارته، فيلجأ إلى "قروض السوق السوداء" كما جرى مع رجل الأعمال الخمسيني موسى، من منطقة المثلث، والذي رفض الكشف عن هويته حفاظاً على أمنه الشخصي، إذ كان يملك شركة ناجحة بتعاملات مالية 3 ملايين شيقل شهرياً بنسبة ربح 10% (300 ألف شيقل)، قبل أن يصبح ملاحقاً من عائلات الإجرام، كما يفيد في إفادته بالدراسة المشار إليها سابقاً.
وبدأت مأساة موسى قبل ثلاث سنوات بعد أن رفضت البنوك الإسرائيلية منحه قرضاً لمعالجة أزمة مالية، فاقترض من إحدى عائلات الإجرام مبلغ 200 ألف شيقل بفائدة شهرية 8%، وبسبب تأخره في السداد في إحدى المرات أُبلغ بأن المبلغ الأساسي المطلوب أصبح 216 ألف شيقل والفائدة الشهرية 9%، وقد اضطر في وقت لاحق لاقتراض مليون بنسبة فائدة شهرية 27%، و500 ألف شيقل بنسبة فائدة شهرية 6%، وفي النهاية أشار عليه المحاسب الرئيسي في شركته بضرورة بيع نصف الشركة، وهو ما حدث بالفعل، بعد رفض البنوك الإسرائيلية منحه قروضاً للخروج من أزمته.
ويكشف تقرير رسمي عرض على لجنة الرفاه والعمل في الكنيست بتاريخ 13 مايو/ أيار 2020 أن نصيب الشركات العربية في الداخل المحتل من القروض التي منحتها الحكومة مع بدء أزمة كورونا كان 4% فقط، والنتيجة "دخول عائلات ومنظمات الإجرام على خط الأزمة، وغمر المناطق العربية بقروض السوق السوداء".
ووفقاً للبيانات المقدمة للكنيست بحلول 19 إبريل/ نيسان، فإن 4% فقط من الطلبات التي وافق عليها صندوق قرض ضمان الدولة كانت من بلدات عربية، رغم أن نسبة الطلبات المقدمة من العرب كانت 15% من إجمالي الطلبات. كما لا توجد تنافسية بين البنوك الإسرائيلية في البلدات الفلسطينية بالداخل المحتل، بحسب الأكاديمي كريّم، وهو ما يرفع من قيمة وشروط الخدمات المصرفية المقدمة لهم ويدفعهم للسوق السوداء، وهو ما أكدته دراسة أجراها الخبير الاقتصادي في مركز المعلومات والإشراف بالكنيست نعوم بوتوش، إذ بلغ عدد الفروع المصرفية في دولة الاحتلال 1046 فرعاً حتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، 60% منها في التجمعات اليهودية، و30% في التجمعات المختلطة و1% فقط في التجمعات الفلسطينية.
الأسباب المشجعة على الظاهرة
بالإضافة للسياسات الإسرائيلية، فإنه من الضروري تفكيك الأسباب الموضوعية المشجعة على الظاهرة، كما يقول الباحث في العنف والجريمة بجمعية بلدنا، وئام بلعوم، والذي يحذّر من الثقافة الاستهلاكية بين فلسطينيي الداخل والتي تدفع كثيرين إلى محاولة مجاراة أنماط معيشية مرتفعة، حتى لو كان ذلك من خلال القروض.
ويؤكد بلعوم أن تنامي الثقافة الفردانية في الداخل المحتل على حساب الانتماء المجتمعي نتيجة سياسات التجهيل وطمس الهوية، ساهم في اتجاه شباب نحو تحقيق ذاتهم اقتصادياً حتى لو كان ذلك من خلال السوق السوداء، وبالتالي لا يمكن حصر القروض بعائلات الإجرام، بل إن أشخاصاً عاديين وشباناً في مقتبل العمر قد يصبحون مقرضين من أجل تحقيق المنافع الشخصية وتقديمها على المصلحة العامة، والفرق أن عائلات الإجرام لديها أدوات للضغط والتأثير والابتزاز.
ويرى أستاذ الاقتصاد كريّم أن فلسطينيي الداخل لا يثقون بالجهاز البنكي الإسرائيلي منذ نشأته، ولذلك اعتادوا على عدم التعامل معه واللجوء للتعامل النقدي، وهو ما يوفر أرضاً خصبة للسوق السوداء، فالذين يملكون النقد يقرضون المحتاجين إليه.
اللافت أنه وخلال إعداد التحقيق، تراجع معظم ضحايا قروض السوق السوداء الذين قابلهم معد التحقيق عن إفاداتهم، وهو أمر مبرر، وفق الباحث الميداني بلعوم الذي قال: "الأمر شديد الخطورة، إبراهيم الذي قابله فريق البحث الميداني في جمعية بلدنا لا يجرؤ على إنارة الضوء في بيته، حتى لا تكتشف عائلة الإجرام وجوده فيه".