تحقيق الجزائر 2
02 يونيو 2022
+ الخط -

حرمت البيروقراطية وعراقيل إدارية استمرت ثلاثة أعوام المستثمر الجزائري توفيق سد، من الحصول على رخصة مصنع لمواد التنظيف ببلدية بوسعادة في ولاية المسيلة، 300 كيلومتر جنوب شرق البلاد.

ولا يجد سد وصفا يختصر وقائع ما جرى إلا "شبهة فساد" ضيعت على أهالي الولاية فرص عمل وحرمت البلاد من تصنيع منتجات كان يستوردها حتى فبراير/شباط 2019، قائلا: "بعدما باشرت إجراءات إنجاز الوحدة الإنتاجية اصطدمت في يونيو/حزيران 2019 برفض رئيس البلدية منحي رخصة النشاط، مبررا ذلك بأن المنطقة التي يتواجد فيها المصنع آهلة بالسكان، ومشروع مواد التنظيف قد يشكل خطرا على صحتهم".

بعدها تقدم بطلب إلى البلدية لمنحه أرضا في المنطقة الصناعية بوسعادة، وتمت الموافقة على الملف شهر يناير/كانون الثاني 2020، ليعمل على توصيل الكهرباء والماء والغاز إلى المكان بكلفة 8 ملايين دينار (ما يوازي 56 ألف دولار أميركي)، وحصل على موافقة رئيس البلدية لكنه عندما استعد لبدء العمل في أغسطس/آب 2021، تم انتخاب رئيس بلدية جديد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ليقرر منعه هو الآخر من النشاط.

طلب مني رئيس البلدية الجديد، تسديد مبلغ 40 ألف دينار (276 دولارا) شهريا إيجارا للأرض التي تبقى ملكا لمؤسسته، غير أني رفضت، خاصة أن رؤساء البلديات عادة ما يمنحون عقد استغلال للمستثمرين دون مقابل مع إبقاء العقار باسم البلدية، كما يقول سد، مضيفا أن الرئيس الحالي أطلق عليه تسمية مواطن بدون لفظ مستثمر في أوراق الإيجار، الأمر الذي أثار مخاوفه من الفساد.

ويرد رئيس البلدية سعيد بن أعمر على اتهامات سد بأنه استقبله وتعرف على ملفه وحاليا بصدد دراسته، مشددا على أنه لا يعارض مساعدته كمستثمر، مضيفا بخصوص طلب مبلغ للإيجار: "مستعد لإيجاد حل لتسوية مشروع توفيق، أريد المزيد من الوقت لدراسة ملفه فقط".

ويرد توفيق على رئيس البلدية بأنه أودع شكوى لدى وسيط الجمهورية لولاية المسيلة (مؤسسة مستحدثة من طرف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بتاريخ 15 فبراير/ شباط 2020 لتذليل الصعوبات بين المواطن والإدارة) بتاريخ 15 أبريل/ نيسان 2022 وأخرى لدى الاتحاد الوطني للمستثمرين الشباب (تجمع لأرباب العمل)، وينتظر ردهم.

بيروقراطية ورشوة

يعد توفيق أحد المستثمرين الذين كبحتهم البيروقراطية والفساد، كما يقول رياض طنكة رئيس الاتحاد الوطني للمستثمرين الشباب والذي يحصي 10 حالات مشابهة من بين أعضاء التنظيم الذي يترأسه عانوا من عرقلة المشاريع عبر طرق متنوعة خلال العامين الماضيين، ومنها طلب الرشوة، وهي ظاهرة توغلت في الإدارات الجزائرية بسبب نقص التبليغ من طرف الضحايا كما يقول.

ويعترف وسيط الجمهورية في ولاية بومرداس شرق الجزائر علي بوسعيدي، بوجود 5 شكاوى وصلتهم من طرف رجال أعمال، يؤكدون أنهم ضحية طلب رشوة، لكن وساطة الجمهورية لا تمتلك سلطة الضبطية القضائية للتحقيق في الملف، كما أن هؤلاء لا يتوفرون على أدلة كافية تثبت تعرضهم لذلك، بينما بلغ العدد الإجمالي لشكاوى تجميد المشاريع 56 حالة منذ شهر ديسمبر/كانون الأول 2021.

ولا تقدم وزارة العدل الجزائرية معطيات سنوية دقيقة عن حجم قضايا الرشوة في الجزائر، ولكن إحصائيات المحامي المعتمد لدى المحكمة العليا إبراهيم بهلولي وزملائه تقدر العدد بـ 800 قضية، ومعظمها لا يتم إثبات أركان الرشوة فيها، بسبب غياب عنصر التلبّس، وهو ما يعد أحد أسباب نداء وجهه مجلس التجديد الاقتصادي (منظمة أرباب عمل ونقابة رجال أعمال) إلى المنضمين إليه، محذرا إياهم من الانسياق وراء طلبات الرشوة، حتى وإن تعرضوا إلى ضغط من طرف إداريين يجمدون مشاريعهم.

وطلبت الناطقة الرسمية باسم المجلس وداد بلهوشات، من الأعضاء تسجيل شكاوى لدى الجهات الرسمية، والالتزام بميثاق أخلاقيات المهنة، ورفض طلب المرتشي مهما كان، مؤكدة إبلاغ أعضائهم بضرورة التبليغ في حال أي تعطيل.

وفي المقابل يكشف لخضر بلاط، صاحب علامة "بلاط" لتصنيع منتجات اللحوم، أن 3 مصانع تابعة لعلامته التجارية تعرضت للتجميد طيلة 4 سنوات، من طرف المسؤولين بولايتي البليدة جنوب العاصمة، والجزائر العاصمة، إلا أنه طيلة فترة التجميد لم يتعرض لأي طلب رشوة، وتم مؤخرا حل مشكلته من طرف مؤسسة وسيط الجمهورية، ليتبين أن سبب التجميد كان سوء التنسيق بين مصالح الولاية.

لكن ماذا يعني سوء التنسيق؟ تجيب بلهوشات أن سوء التنسيق يعني عدم تبادل المعطيات بين الإدارات، وغياب الاجتماعات لتحديد السبب الحقيقي لتجميد المشروع على مستوى الولاية.

ومن بين أسباب تجميد المشاريع، المشاكل المتعلقة بالطابع القانوني للعقار أي غياب وثائق الملكية، أو مشكلة انعدام التهيئة والربط بمصادر الطاقة والمياه وقنوات الصرف الصحي وكذلك المماطلة في إصدار رخص البناء والتراخيص الخاصة بمزاولة بعض النشاطات المقننة كما توضح بلهوشات. 

وكل هذه العراقيل بحسب إفادتها، تؤثر بدورها على إمكانية حصول المستثمر على مصادر التمويل التي تشترط أن يكون الملف كاملا ويحوز كل الضمانات الرهنية المنصوص عليها قانونا.

من يطلب الرشوة؟

رصدت معدة التحقيق خمس حالات لتعطيل مشاريع من طرف إداريين، 3 من بينها أصحابها ضحية طلب رشوة لرفع التجميد، ولكن عن طريق وسيط، وليس من طرف الإداري نفسه، وهو ما يصعب من كشف التجاوزات، ويعقد إثبات تورط الإداري الذي يتعمد عرقلة المشروع.

ويتحدث المتعامل قيدوم محمد بولاية قالمة 537 كيلومتر شرق العاصمة، عن تقديم طلب قرض لإنجاز مشروع غرف تبريد ومطاحن، لدى بنك الفلاحة والتنمية الريفية (حكومي) بقيمة 60 مليون دينار، 418 ألف دولار، في عام 2018، بالشراكة مع مصالح ولاية قالمة، وتم رفض المشروع آنذاك من طرف مديرية الفلاحة بسبب عدم تحديد حصة القمح التي يستفيد منها، (تعادل 40 طنا يوميا)، ويفترض أن يوقّعها له المدير المركزي بمديرية ضبط وتطوير المنتجات الفلاحية بوزارة الفلاحة والتنمية الريفية، لكن تم الرفض دون تقديم توضيحات.

ويقول محمد إنه في يناير 2019، تنقل إلى وزارة الفلاحة والتنمية الريفية بالجزائر العاصمة لإعادة طرح الملف، وبينما كان بصدد الصعود إلى سيارته، تقدم نحوه شخص ليس لديه معطيات إن كان موظفا في الوزارة أو تم إيفاده من قبل مسؤول هناك، وطلب منه مبلغ 10 ملايين دينار(69 ألف دولار)، من أجل تسوية ملفه بصفة كلية، يقول قيدوم "استغربت حينها وما كان علي سوى الرفض".

وهو نفس ما يرويه المستثمر أحمد عمراوي من ولاية بسكرة حول مشروع إنجاز وحدة تصنيع إسمنت بقيمة 600 مليون دينار (4.17 ملايين دولار)، إذ توجه في أغسطس 2017 إلى مديرية سونلغاز (شركة حكومية للتزويد بالكهرباء) من أجل إيصال الطاقة إلى مصنعه، لكن ماطل المسؤولون في تسوية الأمر، وبعدها تلقى اتصالا من مجهول طلب منه رشوة بقيمة 4 ملايين دينار (28 ألف دولار)، مدعيا أن مسؤولا آخر في الشركة هو من طلبها لتسريع توصيل الكهرباء إلى المصنع لكنه رفض الأمر مهددا المتصل باللجوء إلى العدالة، وبعد سنة من الحادثة قام المعني بالتواصل مع الجهات المحلية للتدخل وتمت تسوية الملف حاليا.

بينما يروي المستثمر منير جديد، من ولاية قالمة، تفاصيل تجميد مشروع مصنع للبلاط، مؤكدا أنه في يناير 2002 قرر شراء قطعة أرض بهدف عمل مصنع بلاط لكن لم يحصل على عقد الملكية حتى عام 2014 بسبب مشاكل قضائية، وخلال تلك الفترة رفض بناء مصنع في أرض ليست ملكه، لكن بعد حصوله على العقد غير فكرة المشروع لأن البلاط لم يعد مطلوبا في بناء السكنات المنجزة من قبل الدولة، واتجه إلى فكرة مصنع لإنتاج المعجنات الغذائية، غير أنه اصطدم بداية عام 2015 بتعطل دراسة ملفه الذي يحتوى على رخصة البناء، حتى فبراير 2019 إذ طلبوا منه في الشباك الموحد الخاص بإنجاز أمور المستثمرين على مستوى بلدية قالمة إعادة محضر التوتيد (وثيقة تحديد مساحة العقار)، بحجة أنه غير صالح، وعليه دفع مبلغ 200 مليون دينار (14 ألف دولار)، رغم أن المحضر يمكن إنجازه مقابل 20 ألف دينار (140 دولارا)، وحينما تساءل عن السبب اقترح عليه أحد العاملين بالبلدية دفع رشوة لفائدة الموظفة أطلق عليها تسمية "إكرامية" وهو ما رفضه المتحدث الذي أودع ملفه مؤخرا على طاولة وسيط الجمهورية ولا يزال ينتظر الرد.

الصورة
تحقيق الجزائر 32

كيف يتم تجميد المشاريع وما هي سبل المواجهة؟

يؤكد رئيس الكونفيدرالية الجزائرية لأرباب العمل المواطنين سامي عقلي، أنه خلال اجتماعهم بشكل دوري مع رجال الأعمال المعنيين بتجميد المشاريع والتي تقدّر بـ 92 حالة من المنتسبين إلى منظمتهم، حتى تاريخ 15 أبريل 2022، تبين أن الأمر يتم إما نتيجة عدم تسليم رجل الأعمال قطعة الأرض المخصصة لإنجاز مشروعه، أو عدم منحه تصريح البناء أو رخصة النشاط أو رخصة دخول المشروع حيز الاستغلال، وهذا قد يكون بسبب مماطلة إدارية في الولايات وهو ما يصنف في خانة البيروقراطية، والتي قد يكون سببها رغبة الإداري في الحصول على رشوة، وتم إبلاغ وساطة الجمهورية بذلك.

كما يقر عقلي أن أحد أسباب عدم منح الرخص، هو سوء التنسيق بين الإدارات الجزائرية، إذ لا يتم تنظيم اجتماعات دورية على مستوى مقر الولاية بحضور جميع الهيئات المكلفة بالاستثمار لمعالجة تطور المشاريع، وهو ما يؤدي إلى غياب معطيات كل إدارة عن الأخرى وبالتالي تبقى المشاريع مجمدة أحيانا لسنوات، خاصة وأن بعض أصحاب المشاريع بعد استفادتهم من العقار الصناعي يغيرون النشاط، وهو ما يجعل الإداري المكلف بمنحهم رخصة بداية العمل يرفض ذلك، على أساس أن صاحب المشروع مسجل ضمن نشاط غير الذي يطلبه على سبيل المثال.

وأيضا، حسب عقلي، تغييرمساحة العقار أو حجم الإنتاج دون إبلاغ كافة الإدارات، وهو ما يجعل المكلف بمنح رخصة النشاط والاستغلال يعطل الملف بسبب تغيير المعطيات المتواجدة على الورق مقارنة مع تلك المتواجدة في الميدان.

ويكشف بيان رئاسة الجمهورية الصادر بتاريخ 10 أبريل/نيسان 2022 عن رفع القيود عن 834 مشروعا استثماريا، من أصل 915 مشروعا مجمدا تم إحصاؤهم، مع بقاء 8.85 بالمائة فقط من المشاريع العالقة قيد المعالجة، وأظهرت نفس الحصيلة دخول 574 مشروعا استثماريا حيز الاستغلال.

وعن طرق رفع التجميد عن المشاريع، يؤكد وسيط الجمهورية بولاية بومرداس علي بوسعيدي أن العملية تتم عبر اجتماع وساطة الجمهورية على مستوى كل ولاية مع المستثمر بعد بلوغ شكواه إلى مصالحهم، ثم الاجتماع مع مختلف مسؤولي الإدارات على مستوى مقر الولاية بحضور الوالي، على غرار مدير الصناعة، البيئة، الفلاحة والسكن ليبدوا رأيهم حول المشكلة، وإمكانية رفع العراقيل، وتجتمع هذه اللجنة 3 مرات في الأسبوع بحضور المتسبب في تجميد المشروع.

وضرب وسيط الجمهورية مثالا بولاية بومرداس، إذ رُفع التجميد عن 78 مشروعا، منها مشروع مصنع الإسمنت بالمنطقة الصناعية خميس الخشنة، وأصبح المصنع يصدر اليوم بعدما كان متوقفا عن النشاط بسبب رخصة النشاط، وأيضا مصنع للمواد الغذائية بالولاية.

ثغرات قانونية

يؤكد المحامي المعتمد لدى المحكمة العليا عمار خبابة أن النصوص القانونية في الجزائر تبقى عاجزة عن التصدي لظاهرة الرشوة وتأثيرها على تعطيل المشاريع، بسبب امتيازات ممنوحة في قانون الاستثمار الحالي لأشخاص دون مستثمرين آخرين، وفق السلطة التقديرية للوالي، أو المسؤول الإداري (تمكين الوالي من منح مشروع لمستثمر دون آخر إذا رأى في تقديره أن هذا المستثمر يستحق الرخصة أكثر من غيره)، وهو ما يفتح الباب أمام جملة من التجاوزات، مطالبا بأن يكون مشروع قانون الاستثمار الجديد، المتواجد حاليا على طاولة الحكومة مراعيا لكل هذه النقائص.

ويجب على من يبلغ عن الرشوة أن يتوفر على كافة الإثباتات التي تورط المرتشي، خاصة وأن القانون يعاقب كلا من الراشي والمرتشي، كما يقول خبابة مضيفا أن التبليغ يجب أن يضمن توقيف طالب الرشوة متلبسا بالجرم.

وينص القانون رقم 06_01 المؤرخ في 20 فبراير من عام 2006 والمتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، في المادة 25 من الباب الرابع، على تجريم رشوة الموظفين العموميين، إذ "يعاقب بالحبس من سنتين (2) إلى عشر (10) سنوات وبغرامة من 200.000 دج إلى 1.000.000 دينار، كل من وعد موظفا عموميا بمزية غير مستحقة أو عرضها عليه أو منحه إياها، بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كان ذلك لصالح الموظف نفسه أو لصالح شخص أو كيان آخر لكي يقوم بأداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل من واجباته، وكل موظف عمومي طلب أو قبل، بشكل مباشر أو غير مباشر، مزية غير مستحقة، سواء لنفسه أو لصالح شخص آخر أو كيان آخر، لأداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل من واجباته".

لجنة تحقيق برلمانية

يعتزم البرلمان الجزائري فتح ملف تجميد المشاريع بسبب الرشوة والفساد، عبر إيفاد بعثة برلمانية استعلاماتية إلى 17 ولاية في يونيو 2022، كما يقول في إفادة لـ "العربي الجديد"، عضو لجنة الشؤون الاقتصادية والتجارة والتخطيط بالمجلس الشعبي الوطني هشام صفر، النائب عن التجمع الوطني الديمقراطي (حزب موال للسلطة).

وستلتقي هذه البعثة بأصحاب المشاريع المعطلة، كما ستستمع إلى ولاة الجمهورية وإداريين معنيين بالتجميد، وفي أعقاب ذلك ترفع تقريرا مفصلا لرئيس البرلمان والذي بدوره سيحيله إلى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ليتم بعدها إصدار قرارات جديدة من شأنها أن تنهي كابوس تجميد المشاريع، خاصة بسبب ملابسات الفساد، كما يؤكد النائب البرلماني.