يرصد الطبيب المصري عمرو الشلقاني، أستاذ أمراض النساء والتوليد في جامعة عين شمس، الحضور الكبير لأقرانه من الرجال في تخصصه إذ لم تعيّن طبيبات ضمن أعضاء هيئة التدريس في القسم الذي يعمل به حتى الثمانينيات من القرن الماضي، والذي شهد هيمنة الرجال على المهنة لعدّة عقود، بعدما كانت النساء في صدارة تخصص التوليد في بدايات القرن، ثمّ اختفين لعدة عقود اقتُطِعت من تاريخ احتكار النساء للمهنة، وهو ما يوثقه ابن خلدون حين كتب مقدمته، التي أرّخ فيها للصناعات المختلفة في عصره: "مهنة التوليد مختصّة بالنّساء في غالب الأمر لما أنّهنّ الظّاهرات بعضهنّ على عورات بعض".
مدرسة القابلات في عهد محمد علي
أنشأ محمد علي مدرسة القابلات عام 1823 في قصر العيني لتخريج دفعات من المتخصصات المتعلمات وفق القواعد العلمية الحديثة، ولكن بحسب ما ذكر المؤرخ خالد فهمي، في كتابه "الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة" فإنّ هذه المدرسة لم تلق إقبالاً من الفتيات على الالتحاق بها.
وظلّ العزوف عنها مستمرًا طوال القرن التاسع عشر، إذ لم يزد عدد الطالبات الملتحقات بالمدرسة عن عشرين في كل عام، وعلى الرغم من تبني الدولة لمدرسة القابلات إلاّ أنّ قلة عدد الحكيمات المتخرجات لم يجعلهنّ يحللن بدلا من الدايات المنتشرات في الأحياء الشعبية، وبالموازاة مع ذلك، بذلت محاولات جمّة لإنشاء حجرة لأمراض النساء والتوليد في قصر العيني، وإنشاء عيادة خارجية، ولكنّ هذه المحاولات انتهت بالإخفاق، ففي ذلك الوقت المبكر في نهايات القرن التاسع عشر، كان المصريون يأبون إدخال نساءهم إلى مستشفى يعمل به طلاب وأطباء من الرجال، بحسب ما روى أستاذ طب النساء والولادة في مدرسة الطب بالقصر العيني ورائد علم أمراض النساء والولادة نجيب محفوظ (وُلد في سنة 1882 وتوفي عام 1974) ضمن سيرته "حياة طبيب".
ظلّت الدايات هن المسؤولات عن توليد النساء خلال القرن التاسع عشر، حتى حدث تحول آخر في تاريخ المهنة قاده الدكتور محفوظ، والذي سمي أديب نوبل على اسمه، إذ كانت والدته تعاني من ولادة متعثرة، كادت تنهي حياتها وحياة مولودها، غير أن والده عبد العزيز إبراهيم لجأ إليه لإنقاذ الأم وجنينها، وعقب نجاح العملية قام بتسمية مولوده الجديد على اسمه.
التحول في مهنة التوليد من الدايات إلى الأطباء
حين كان نجيب محفوظ في السنة النهائية لكلية الطب عام 1902، لم يكن لمادة النساء والتوليد المقررة على الطلاب أهمية تُذكر في المقررات الدراسية لكلية الطب، كما يقول في سيرته، مضيفا أنّ المحاضرات التي ألقيت على الطلاب في تخصص النساء والتوليد في ذلك العام لم تتجاوز ثلاثاً، وأنّ المتقدمين للامتحان لم يتجاوزوا عشرة طلاب لم يكونوا على دراية كافية بتخصص النساء والتوليد، إذ لم يكن قد أنشئ قسم أو عيادة خارجية لطب النساء والتوليد، ولم يجرِ في القسم عمليات أمراض النساء إلا ما ندر.
عزم الطبيب محفوظ على تكريس حياته للاختصاص في طب النسا والتوليد، بسبب النقص الكبير في التخصص، حتى استطاع الحصول على موافقة الأساتذة أصحاب القرار في قصر العيني على إنشاء عيادة خارجية لأمراض النساء والتوليد، ثمّ تلا ذلك تخصيص عشرة أسرّة بداخل المستشفى للجراحات الخاصّة بأمراض النساء والولادات العسرة.
نجحت محاولة محفوظ وأقبلت النساء على العيادة الخارجية في القصر العيني، وفي خلال عامين، أجريت 350 جراحة نسائية، كتب عنها نجيب محفوظ في مقال علمي نشر في مجلة ذا لانسيت Lancet (طبية محكّمة أسبوعية بدأ إصدارها عام 1823 ولا تزال)، مركزًا على الحالات النادرة، واستمر متطوعا بتوليد الحوامل المتعسرات في منازلهن مدة خمسة عشر عامًا اكتسب خلالها خبرة جمّة.
وبعد مضي قرن على إنشاء مدرسة القابلات كانت على موعد مع محفوظ، إذ عهد إليه الدكتور كيتينغ، أستاذ الجراحة في القصر العيني بالبحث في حالة مدرسة القابلات، وكان ذلك في حدود عام 1917، على أن يكتب تقريرًا لإصلاحها فضلاً عن إسناد تدريس مقرر التمريض العام وفن الولادة لطالبات المدرسة إليه، وفي خلال ثلاثين سنة، تخرّج على يديه ما لا يقلّ عن ألف مولدة وحكيمة مكتملات التعليم والمران العملي، كما يقول في مذكراته.
وفي عام 1919 قرّر محفوظ افتتاح مراكز لتوليد الحوامل في منازلهنّ، فبدأ العمل بافتتاح مركزين أحدهما في باب الشعرية والآخر في بولاق، ولم يمرّ شهران حتى انهالت الطلبات على المركزين، وكان يرسل واحدًا أو اثنين من الأطباء المساعدين للمعاونة والإشراف على عمل طالبات مدرسة القابلات.
واستمر محفوظ في مساعيه لتوسيع العمل في مجال طب النساء والتوليد، ليشرف على إنشاء أول قسم للولادة في قصر العيني (ما بين 1917 و 1919) ، ويجري فحص الحالات في العيادة الخارجية، وحين تحين ساعة الولادة إمّا يدخلن المستشفى أو تُرسَل لهن مولدة أو طبيب أو طالب لمباشرة توليدهنّ.
ويذكر محفوظ أنّ مستشفيات أخرى للولادة أنشئت بعد مستشفى قصر العيني، مثل مستشفى السيدات بشبرا، ثمّ تعددت مستشفيات الولادة، وأخذ الأطباء المولدون ينشئون لأنفسهم مستشفيات خاصّة يجرون فيها الجراحات النسائية والتوليد.
تذكير المجال
ما بين بداية القرن العشرين وحتى ثمانينياته، لم يكن للطبيبات وجود حقيقي يعتد به في مجال النساء والتوليد، حتى تُنوسي امتهان النساء للمهنة تاريخيًّا، ليس فقط في المجال المهني، بل كذلك في سوق العمل الحر، ويوضح الدكتور عمرو الشلقاني، أنّه منذ ثلاثين عامًا كانت هناك ندرة في أعضاء هيئة التدريس من النساء.
ويعزو الشلقاني ما يعتقد أنه أسباب عدم جاذبية مجال النساء والتوليد للطبيبات إلى أنّ طب الطوارئ جزء لا يتجزأ من ممارسة مهنة التوليد، والعمل في الطوارئ يعني استنفادا بدنيّا ونفسيّا شديدا، فالمتخرجات أقل انجذابًا لهذا النوع من الممارسة الطبية، أي ممارسة الطوارئ، بينما يقول الدكتور محمد سامي، أستاذ مساعد تخصص النساء والتوليد بطب عين شمس أنّ العمل في مجال النساء والتوليد مزعج للأطباء والطبيبات على السواء، فلا يوجد مواعيد عمل واضحة، كما أنّ الظروف المحيطة بالمهنة شديدة الصعوبة، والعمل في الطوارئ جزء لا يتجزأ من المهنة.
ويضيف الشلقاني أنّ ظروف العمل شديدة الصعوبة، بل ومسيئة، وقد اتجهت البلدان المتقدمة اقتصاديًّا إلى وضع هذه الظروف الصعبة تحت بند الإساءات في بيئة العمل، ومنها الحرمان من النوم والأكل لساعات طويلة.
عودة النساء
بدأت عودة الطبيبات إلى التخصص على مستوى واحدة من أهم كليات الطب في مصر، حين بدأ تعيينهن في قسم النساء والتوليد في جامعة عين شمس على استحياء في الثمانينات، وافتتحت العودة الدكتورة جيهان علام، الأستاذة في جامعة عين شمس، ولكنّ هذا التعيين لم يكن يسيرًا إذ اضطرّت علام إلى رفع عدة قضايا في المحاكم حتى حصلت على هذا الحق، كما توضح الدكتورة دعاء حافظ، طبيبة النساء والتوليد.
تضيف حافظ، أن قسم النساء والتوليد يعيّن عشرة نواب فقط كل عام، وبدأ تعيين الطبيبات منذ عام 2000، لكن قبل هذا التاريخ كان النواب العشرة من الأطباء الشبان، وفي عام 2004 كان عدد المعينين عشرة أطباء، سبعة شباب وثلاث شابات، ومنذ عام 2010 أصبحت النسبة بين الشباب والشابات متقاربة تقريبًا، كما يقول الشلقاني.
ومن بين المعينات الدكتورة دعاء حافظ والتي كانت طالبة متفوقة وتريد امتهان تخصص طب النساء والتوليد، وبالفعل حصلت على فرصتها عام 2002 بعدما نالت درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى في البكالوريوس.
لكن لم يكن العالم ورديَّا بعدها، بل كان قاتمًا، إذ قضت دعاء نيابتها ما بين عامي 2004 و2007 بشكل قاس جدًا كما تصف ما عانته، وتقول إنّها بحكم عملها طبيبة مقيمة في مستشفى الدمرداش، لم تخرج من المستشفى لمدة شهر تقريبًا، وكانت تحرم من النوم والأكل لساعات طويلة قد تصل إلى 24 ساعة وأحيانًا 36 ساعة.
وتواصل بأنّها اختبرت تمييزًا في المعاملة وفرص التدريب بينها وبين زملائها من الأطباء، إذ أخذت فرصتها في ممارسة التوليد والحوادث وهما من الممارسات الأولية في المهنة، لكن الممارسات الأكثر تعقيدًا وتمييزًا مثل أورام النسا، لم تحصل على فرصتها في تعلمها أثناء النيابة ذات السنوات الثلاث، وتقول إنّ الأساتذة كانوا يفضلون تعليم زملائها من الأطباء الشبان هذه الحالات ولا يعطون فرصًا مماثلة للطبيبات الشابات.
ولكن الدكتور عمرو الشلقاني يؤكد أن ثمّة تغييرًا بدأ يحدث فنسبة تعيين الشابات إلى الشباب في قسم النساء والتوليد في طب عين شمس بدأت تتساوى، وفرص التدريب آخذة في التساوي بينهما كذلك، وهو الأمر الذي يؤكده كذلك الدكتور محمد سامي.
ويتوقع الشلقاني تغير الأحوال، لأن إقبال الفتيات على المجال الطبي عمومًا في ازدياد، وإحجام الشباب عن المجال يرتفع كذلك، بسبب وجود فرص وظيفية أخرى تقدم إمكانية اقتصادية أعلى من حيث الأجور بالمقارنة مع الطب الذي يتأخر فيه الطبيب حتى منتصف الثلاثينات تقريبًا، قائلا :"أتصور أننا بحاجة إلى جهود لجذب الذكور إلى مجال الطب، أخشى من "تأنيث الطب".