عجزت منظومة العناية المركزة في الجزائر عن إنقاذ حياة 89.9% من إجمالي المصابين بكورونا ممن جرى إدخالهم إليها، حتى يناير 2021، بسبب التأخر في توفير الرعاية اللازمة والأجهزة في ظل نقص الأسرّة وأخطاء تشغيلية وفق ما تكشفه الحلقة الأولى من ملف يتتبع المنظومة عربيا ويوثق قدراتها وإمكانياتها وأسباب إخفاق القسم الأهم المعني بتقديم أقصى أنواع الرعاية الصحية الممكنة.
-توفى الأربعيني الجزائري محمد زوهير، بعد يوم واحد من دخوله قسم العناية المركزة بمشفى زريبة الوادي الحكومي في بلدة بسكرة، للتداوي من فيروس كوفيد - 19، بسبب تعرضه لصدمة قلبية، رغم أنه لم يكن مصاباً بأي مرض مزمن، كما يؤكد شقيقه كريم، في حين توفيت المجاهدة الثمانينية، الخامسة زقار، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2020، نتيجة إصابتها بفيروس كورونا، والذي أدخلت على إثره إلى قسم العناية المركزة في المستشفى الجامعي بني مسوس في العاصمة، كما يقول ابن شقيقتها كمال جيلاني، موضحا لـ"العربي الجديد" أن الأطباء أبلغوا العائلة بضرورة توفير حقنة "لوفينوكس" التي تدخل ضمن برتوكول العلاج كمضاد لتخثر الدم، بسبب عدم توفرها في المشفى، وما زاد من تدهور حالتها إصابتها بنزيف حاد خلال تثبيت أنبوب جهاز التنفس الصناعي.
وبحسب جيلاني فإن عدد المرضى الكبير داخل قسم الإنعاش، ونقص أطباء الإنعاش، جعل الاهتمام بخالته وغيرها من المرضى أقل مما كان متوقعا.
اللافت أنه من أصل 2861 حالة وفاة بكورونا، سُجلت 2574 منها في أقسام العناية المركزة في عدة مشافٍ جزائرية، أي ما نسبته 89.97%، وفق الدكتور محمد بقاط بركاني عضو اللجنة العلمية لمتابعة ورصد فيروس كورونا التابعة لوزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن عدد من دخلوا العناية المركزة 3576 مصاباً من إجمالي مصابي كورونا البالغ عددهم 105.369 حالة حتى 23 يناير/ كانون الثاني 2021. وهي آخر إحصائيات أعلنت عنها وزارة الصحة الجزائرية.
نقص في كادر الإنعاش والعناية المركزة
تشهد مستشفيات الجزائر نقصا بالأطباء والممرضين المتخصصين في الإنعاش، وفق تأكيد البروفيسور رشيد بلحاج، مدير الأنشطة الطبية وشبه الطبية في مستشفى مصطفى باشا الجامعي في العاصمة، ورئيس النقابة الوطنية للأساتذة والباحثين الجامعيين، مؤكدا على تسجيل تخبط لدى الممرضين والأعوان (مساعدي الأطباء) أثناء تعاملهم مع مصابي كورونا في المشافي، بسبب ضعف درايتهم وتدريبهم على تقنيات العناية المركزة، إذ إن تعامل الممرضين غير المؤهلين مع مصابي كورونا داخل العناية المركزة من شأنه أن يؤذي المريض ويزيد وضعه سوءا، بحسب قوله لـ"العربي الجديد".
كما تشهد البلاد نقصا كبيرا في عدد أطباء الإنعاش، لا سيما بولايات الجنوب والمناطق الداخلية، بحسب أمين بن دالي، الأمين العام للنقابة الوطنية المستقلة للأعوان الطبيين في التخدير والإنعاش، مؤكدا أن عدد الأطباء المتخصصين لا يتجاوز 800 طبيب فقط، في حين تحتاج المشافي على الأقل لـ 2000 طبيب، خاصة خلال فترة كورونا، موضحا أن رؤساء مصالح العناية المركزة اضطروا إلى الاستعانة بمساعدي الأطباء المتخصصين بالعناية المركزة لمواجهة العجز. ويوجد حاليا 7 آلاف مساعد طبيب مقسّمين على 17 مستشفى جامعيا و280 مستشفى حكوميا، يتناوبون على أقسام العناية المركزة لمرضى كورونا، بحسب بن دالي.
وينسحب النقص في عدد الأطباء على الممرضين، فهناك 40 ألف ممرض في المستشفيات الجزائرية، منهم 10 آلاف ممرض يعملون في أقسام كورونا، ألف ممرض منهم فقط متخصصون بالعناية المركزة. وفق لوناس قاشي، أمين عام نقابة شبه الطبي (تمثل مساعدي الأطباء الجزائريين) والذي يعتبر العدد غير كاف، إذ احتاجت المشافي خلال الفترة التي سجلت فيها أعلى نسبة إصابات لـ 2000 ممرض على الأقل متخصصين في أقسام العناية المركزة، مرجعا هذا النقص إلى توقيف تدريس تخصص الإنعاش (العناية المركزة) في الجزائر منذ عام 2000، سواء للأطباء أو الممرضين بسبب غياب أساتذة متخصصين في هذا المجال. مشيرا إلى وفاة 20 مساعد طبيب متخصصين بالعناية المركزة منذ بداية الجائحة بسبب انتقال العدوى إليهم أثناء تثبيت أنبوب التنفس للمريض، حيث لا تتجاوز المسافة الفاصلة بينهما 4 سنتيمترات، كما يضطر المساعد للبقاء إلى جانب المريض لضمان عدم اختلال عملية التنفس لديه، ما يسهل نقل العدوى إليهم.
ويقول البروفيسور بلحاج أن عدد أخصائيي العناية المركزة على مستوى مستشفى مصطفى باشا يقدّر بـ 85 طبيبا وهو الأعلى في الجزائر، واصفا الرقم بالصغير جدا، نظرا لانتقال عدد كبير من الأطباء إلى مستشفيات فرنسية وأوروبية حيث يحصلون على أجور عالية، أما في المستشفيات الصغيرة فلا يوجد أطباء عناية مركّزة.
عجز في أسرّة العناية المركزة
يقدر عدد أسرة العناية المركزة على مستوى 17 مستشفى جامعيا بـ 2000 سرير، منها 1000 سرير مجهز بجهاز التنفس الصناعي، وصلت نسبة إشغالها على مستوى المستشفيات حتى 20 ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى 67%. إذ بلغ معدل الجزائريين الذين يحتاجون جهاز تنفس صناعي 13% من إجمالي الحالات المصابة بكورونا. وفق مصطفى خياطي، رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث (مستقلة وتعنى بتطوير القطاع الصحي). وكان عدد أسرة كورونا في شهر مارس/آذار الماضي قبل ازدياد أعداد الإصابات 400 سرير فقط، بحسب رئيس مصلحة الأمراض المعدية في مستشفى بوفاريك الحكومي، الدكتور محمد يوسفي.
2000 سرير حجم العجز في أسرّة العناية المركزة بالمشافي الجزائرية
ويعد قسم كورونا في مستشفى بوفاريك الواقع في البليدة جنوب العاصمة الأكبر على الإطلاق في الجزائر، إذ يقدر عدد أسرة العناية المركزة فيه بـ 150 سريرا، 45 منها مزودة بجهاز تنفس صناعي. واستقبل وحده منذ بداية الجائحة ولغاية 22 ديسمبر 3700 مصاب، من بينهم 300 احتاجوا للرعاية الصحية داخل العناية المركزة، وتوفي منهم 180. وفق الدكتور يوسفي. مؤكدا على استقبال مصابي كورونا أيضا في 280 مستوصفا صحيا وعيادة داخل الأحياء السكنية.
ولضمان عدم تسجيل أي عجز في أسرة العناية المركزة، يفترض توفير 4000 سرير على الأقل، أي ما يعادل سريرا لكل 10000 نسمة، لكن العجز في المستشفيات الجزائرية فعلياً يعادل 2000 سرير، بحسب تأكيد خياطي، مشيرا إلى توفر 1000 جهاز أوكسجين تنتج الغاز المشبع بالأوكسجين للمرضى البالغين الذين تنخفض لديهم نسبة تشبع الدم في الأوكسجين عن 90%، وهذا عدد غير كاف في ظل تزايد أعداد المصابين الذين يحتاجون الأوكسجين، وفق قوله، مشددا على ضرورة وجود 2500 جهاز على الأقل.
لكن الناطقة باسم وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات جويدة بوخميخم تؤكد في ردها على أن عدد الأسرة على مستوى أقسام العناية المركزة في الجزائر لا يشهد أي نقص، مشدّدة على أنه خلال بداية الوباء، كان التحكم في عدد الأسرة صعب، بسبب غياب الإمكانيات والخبرة، ولكن الوضع اليوم مختلف، ولا يشبه ما كان عليه سابقا، بالنظر إلى تضاؤل عدد الإصابات، والإمكانيات التي سخرتها الدولة الجزائرية لمواجهة الوباء.
تأخر الرعاية الصحية
وثقت معدة التحقيق 5 حالات لجزائريين أصيبوا بفيروس كورونا، 4 منهم توفوا بسبب تدهور حالتهم وحاجتهم لجهاز تنفس صناعي، لكن نقص أسرة العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي أخّر حصولهم على الرعاية اللازمة. من هؤلاء الثمانيني محمد سليماني الذي توفي في المستشفى الجامعي سليم زميرلي شرق العاصمة، حيث أدخل إليه بعد أسبوع من تفاقم أعراض المرض وشعوره بارتفاع درجة الحرارة والسعال، وضيق في التنفس، وتوفي بعد 24 ساعة بسبب نقص الأوكسجين في الدم. وفق رواية ابنه عيسى سليماني لـ"العربي الجديد". كما يروي زهير مرجاوي، قصة وفاة شقيقه محمد مرجاوي المصاب بالسرطان، وكان قبل الإصابة بكورونا قد خضع لجراحة ناجحة لاستئصال الورم من الرأس، وتلقى العدوى من أحد أقاربه، وعند ظهور الأعراض عليه نُقل إلى مستشفى الأزهر الخاص بالعاصمة، والذي رفض استقباله بسبب غياب إمكانيات علاج الحالات الحادة بكورونا، ونقص الأطباء والممرضين المؤهلين.
واضطرت العائلة إلى اصطحابه إلى مستشفى الدويرة الحكومي غرب العاصمة، لكنه تمكن من إيجاد سرير شاغر في العناية المركزة بعد يومين من الانتظار، وتوفي بعد مرور يومين داخله.
ويعلق خياطي على هذه الحالات بقوله إن معظمها تصل إلى المستشفيات في حالة متأخرة ومتدهورة، هذا ما يجعل نسبة الوفيات بأقسام العناية المركزة مرتفعة. وكان الخمسيني موسى قوراية، المريض الوحيد ضمن الحالات التي وثقتها معدة التحقيق والذي شفي، بعد أن كانت حالته حرجة واحتاج لجهاز التنفس الصناعي، وبعد مكوثه 5 أيام في قسم العناية المركزة في مستشفى حكيم سعدان في بسكرة، جنوب شرق العاصمة المخصص للمصابين بكورونا، تماثل للشفاء. وفق روايته.
أنبوب التنفس الصناعي يؤدي إلى الوفاة بسبب تعنيف القصبة الهوائية
ويغيب التنسيق داخل قسم العناية المركزة بين الطبيب المعالج والمختص بالإنعاش والممرضين بسبب غياب ملفات إلكترونية للمرضى، ما يلعب دورا هاما في ضعف التحكم في الوضع الصحي للمصاب بكورونا، وبالتالي يعجّل في وفاته وهو الانتقاد الذي رفعته الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث، التي يقول رئيسها خياطي إن وزارة الصحة في الجزائر ملزمة بإيجاد حل لهذا الوضع، ويعترف بركاني بتأثير غياب ملف إلكتروني للمريض قائلا: "وزارة الصحة مطالبة باستحداث بطاقية إلكترونية للمرضى في كل مستشفى، وإلا سنخسر الكثير من الوقت والجهد، ونفشل في إنقاذ العديد من المرضى". مؤكدا أن وجود ملف إلكتروني للمريض سيمكن الطبيب من معرفة وضعية المريض كاملة في بضعة دقائق، وبالتالي يشخص حالته بشكل دقيق، دون إعادة التحاليل في كل مرة، ومع تزايد وفيات كورونا في أقسام العناية المركزة، تتجه وزارة الصحة إلى الاستعاضة عن أنبوب التنفس الصناعي، والذي ثبت أنه يؤدي إلى الوفاة بسبب تعنيف القصبة الهوائية، واستبداله بأقنعة أوكسجين بحسب بلحاج، والذي قال إن التجهيزات التي اقتنتها وزارة الصحة مؤخرا لتزويد المرضى بالأكسجين مماثلة لتلك المتواجدة بالدول الأوروبية، وتم تدريب 1000 ممرض على التعامل معها، لكن نسبة الوفاة العالية داخل أقسام العناية المركزة الخاصة بكورونا، لا تقتصر على الجزائر فقط وإنما هي ظاهرة عامة، حيث تعجز كافة دول العالم اليوم عن التحكم في الوباء كما ينبغي.