فلسطينيو الداخل المحتل يرفضون وجود العملاء قربهم
26 مارس 2023
+ الخط -

يكشف تحقيق "العربي الجديد" كيف تتعامل دولة الاحتلال مع العملاء الهاربين إلى مناطق سيطرتها، إذ تتناقض إغراءات البدايات مع حقيقة النهايات في ظل صراع على إثبات التجسس في مقابل محاولات نفي العلاقة تخلصاً من الأعباء.

- ظلّ عواد (يحتفظ الموقع باسمه الكامل)، من سكان قطاع غزة سابقا، يطلب على مدار 11 عامًا تصريحًا بالإقامة في الداخل الفلسطيني المحتل دون استجابة من دولة الاحتلال، بعد هروبه بسبب شبهات تتعلق بتقديمه معلومات للمخابرات الإسرائيلية.

وعُرضت شكواه لأول مرة على المحكمة العليا في عام 1996 برقم 96/ 4535، وبعد ثلاث سنوات قدم التماسًا جديدًا تم رفضه أيضًا، وبعد مرور عامين آخرين، قدم التماسًا ثالثًا، ورُفض، ومرت خمس سنوات أخرى، وفي عام 2006 قدم التماسًا رابعًا وتم رفضه في مارس/ آذار 2007 رغم تأكيده على أن مصيره القتل إذا عاد إلى غزة، بحسب ما جاء في الوثائق المتعلقة بجلسات المحكمة الخاصة به، والتي اطلع عليها معدّ التحقيق عبر موقع "قاعدة البيانات القانونية" المختص بنشر مداولات القضايا المعروضة أمام المحاكم الإسرائيلية.

صراع على إثبات العمالة

"لم يكن جاسوسا لجهاز الشاباك في يوم من الأيام، بحسب المعلومات التي زودتنا بها الأجهزة الأمنية المختلفة، والتي قدمت توصية بعدم الاعتراف به كشخص بحاجة إلى المساعدة، ونحن نقبل بهذه التوصية، ونرد الطلب إلى لجنة التعامل مع ادعاءات التهديد التابعة للجيش"، كان هذا رد المحكمة العليا الإسرائيلية بتاريخ 7 سبتمبر/ أيلول 2007 على شكوى رقم (05 - 6696) التي قدمها عميل آخر هرب من الضفة الغربية إلى الداخل المحتل بعد تورطه في تقديم معلومات إلى مخابرات الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية.

الصورة
شكوى بخصوص الإقامة
مطالبة من عميلين بتوفير إقامة لهما في الداخل المحتل خوفا على حياتهما (العربي الجديد)

"ربطت مصيري بإسرائيل، وهذه هي العاقبة"، هكذا رد العميل على القرار خلال جلسة المحكمة، وفي تفاصيل الشكوى التي اطلع عليها معدّ التحقيق، يؤكد العميل عبر موكله المحامي الإسرائيلي ميخائيل تبلو أنه اعتقل في إبريل/ نيسان 2002 لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية في نابلس لمدة عامين بتهمة التجسس لصالح مخابرات الاحتلال، قبل أن يتمكن من الفرار باتجاه الداخل المحتل، وتقدم بعدها بطلب لمنحه تصريح إقامة وإمكانية العلاج، وهو ما رفضته أذرع الاحتلال الأمنية المسؤولة عن الملف.

وبحسب نص الشكوى، فإن رفض المدعى عليهم، وهم: رئيس حكومة الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية أرئيل شارون، وجهاز الشاباك، واللجنة المعنية بمتابعة ملف العملاء، وشرطة الاحتلال، منح العميل تصريح إقامة دائمة يجبره على العودة إلى مكان إقامته في الضفة، وهو ما يعرض حياته للخطر.

في مايو/ أيار 2013، اتخذ القرار النهائي بحق العميل، بعد 9 سنوات من المداولات أمام المحاكم الإسرائيلية، إذ رفض طلبه بمنحه الإقامة أو حتى العلاج، ورد على ذلك بالقول إنه خلال فترة وجوده بالداخل، أصيب بعدة أمراض، من بينها: السكري والضغط والديسك، وهو الآن بغير مأوى وتعرض للاعتقال على يد شرطة الاحتلال بسبب "إقامته غير المشروعة"، ولا يمكنه العودة إلى الضفة الغربية لأنه سيواجه مصير الموت. 

واطلع معدّ التحقيق على 42 ملفا شبيها عبر موقع "قاعدة البيانات القانونية"، من بينها شكوى رقم (26639 - 08 - 17) قدمها شقيقان (يحتفظ الموقع باسميهما)، ضد "لجنة التعامل مع ادعاءات التهديد" ووزير جيش الاحتلال ومكتب رئيس وزراء الاحتلال، بتاريخ 13 أغسطس/ آب 2017، يطالبان فيها المحكمة الإسرائيلية في مدينة اللد بمنحهما تصريح إقامة في الداخل المحتل، بسبب الخطر على حياتهما للاشتباه في تعاملهما مع مخابرات الاحتلال وخطورة وجودهما في الضفة. وجاء رد المحكمة بشكل مقتضب أن هذا ليس من صلاحياتها.

الصورة
محكمة

محكمة للاحتلال ترفض البت في شكوى أحد العملاء (العربي الجديد)

وبالبحث عن اسمي الشقيقين في سجلات المحاكم الإسرائيلية، يتضح أن أحدهما تعرض للاعتقال في يونيو/ حزيران 2013 بسبب وجوده بالداخل المحتل دون تصريح واستخدام وثائق إقامة مزيفة، وفق ما جاء في ملف القضية رقم 29534-06-13، ورفضت المحكمة الإفراج عنه بشروط، وأبقت عليه رهن الاعتقال، وحكمت عليه بالسجن خمسة أشهر.

ويتضح من قرارات المحاكم الإسرائيلية في الملفات السابقة أنها ترجع هذه القضايا إلى "لجنة التعامل مع ادعاءات التهديد التابعة لمنسق عمليات حكومة الاحتلال في مناطق السلطة"، رغم أنها أحد الأطراف المدعى عليها في الشكاوى، وتتبع لجيش الاحتلال وتتلخص صلاحياتها في الطلب من أذرع الاحتلال الأمنية تقديم معلومات حول مقدّم طلب تصريح الإقامة بعد تعرضه للتهديد بسبب تعامله مع المخابرات، وفي ضوء ذلك تقرر الموافقة من عدمها، بحسب ما هو منشور على موقع الحكومة الإسرائيلية على الإنترنت. 

وبحسب تقرير "مراقب الدولة" الإسرائيلي المنشور في مايو 2007، فإن "لجنة التعامل مع ادعاءات التهديد لا تملك السلطة أو القدرة على اتخاذ قرار بشأن تقديم حلول لأولئك الهاربين للداخل المحتل رغم أن دورها مساعدتهم. بالإضافة إلى أنها تماطل في التعامل مع هذا النوع من الطلبات، ورغم انتقادات المحكمة العليا لمعاملة هؤلاء، إلا أن أوضاعهم ظلت على حالها".

في مايو/ أيار 2012 ناقشت لجنة "شؤون مراقبة الدولة" ما ورد في تقرير "مراقب الدولة"، وقد علّق رئيسها روني بار أون بالقول إنه "من الغريب أن القضية لم تناقش رغم مرور سنوات على التقرير"، ومع ذلك لم يتم اتخاذ أي قرار بالخصوص. 

تماطل لجنة التعامل مع ادعاءات التهديد في مساعدة العملاء

ويوضح الباحث في مركز مدار المتخصص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تحاول أن تبقي الجواسيس الهاربين مشتتين حتى لا يتمكنوا من تكوين مجموعة ضغط قادرة على التأثير كما في تجربة الجزائريين الذين هربوا إلى فرنسا بعد انتصار الثورة.

ويشير في إفادته لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الصهاينة ينظرون للجواسيس من منطلق نظرتهم للعرب، والتي تقوم على الدونية، بغض النظر عن دورهم الذي يقومون به لصالح الاحتلال، ولا تشعر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تجاهم بالتزام في ضوء أنه لا يوجد ما ينظم هذه العلاقة بعد الهروب، وهذا يجعلهم عرضة لتعامل مختلف في وضع يكونون فيه بأضعف حالاتهم ولا خيارات أمامهم".

الاستدراج الآمن... وسيلة إسقاط 

يعدّ "الاستدراج الآمن" أحد أهم الوسائل التي تلجأ إليها مخابرات الاحتلال لتجنيد الجواسيس، كما يوضح أحد المسؤولين السابقين في داخلية غزة عن ملف مكافحة العملاء والمختص بالشأن الأمني إسلام شهوان، مشيرا إلى أن هذا المفهوم تندرج تحته الوعود التي يقدمها ضباط المخابرات للجواسيس، وعلى رأسها: المساعدة في الفرار من الضفة أو غزة بعد انكشاف أمرهم، وتوفير المساعدة المالية والسكن وتصريح الإقامة، وهو ما يتفق مع ما يعترف به رئيس الشاباك يعقوب بيري (1988 - 1995)، في مذكراته التي حملت عنوان "القادم لقتلك"، إذ يشير إلى أن تجنيد الجواسيس في بيئة العدو يتم من خلال مجموعة من الإغراءات التي تشمل منحهم تصاريح الإقامة والمساعدة المالية وتأمين فرارهم وتقديم العلاج الطبي. 

ينظر الصهاينة للجواسيس من منطلق نظرتهم الدونية للعرب

ويؤكد شهوان لـ"العربي الجديد"، على أن إفادات الجواسيس التي اطلع عليها، مليئة بالوعود التي قدمها ضباط المخابرات، وفي بعض الحالات تم تجنيد الجاسوس لفترة معينة وبعد انتهاء مهمته، قام الضباط بإهانته وتهديده بأنهم سوف يشيعون أمره بين الناس إذا عاد وتواصل معهم، وأحيانا يطلبون منه أن يتحول لـ"خلية نائمة" بانتظار التعليمات وقد يستمر به الحال كذلك لسنوات دون أي مقابل، وفي حال طلب أي مساعدة تتم إهانته والتعامل معه بصورة مختلفة عما كانت عليه خلال تقديمه للمعلومات، وإذا كان الحال كذلك مع جاسوس قد يستفيدون منه مستقبلا، فكيف سيكون تعاملهم مع جاسوس فرّ للداخل ولم يعد من ورائه فائدة؟ كما يختتم شهوان حديثه متسائلا.

الصورة
شكاوى
شكاوى تقدم بها عملاء ضد لجنة التعامل مع ادعاءات التهديد التابعة لمنسق عمليات حكومة الاحتلال (العربي الجديد)

وتبين دراسة منشورة في عام 2017 على موقع المخابرات الأميركية تحت عنوان "سيكولوجية التجسس"، من إعداد أورسولا إم وايلدر الخبيرة في علم النفس الإكلينيكي، والتي عملت في وكالة المخابرات المركزية لمدة 25 عامًا في المهام التشغيلية والتحليلية، بما في ذلك مركز التجسس المضاد، أن الوعود بحياة أفضل يمكن أن تقنع الأشخاص "السيكوباتيين" بالتجسس، نظرا لطبيعتهم الأنانية وجرأتهم ومعاداتهم للمجتمع، وكذلك النرجسيين الذين يسعون لإثارة انتباه الناس، وعندما يفشلون في هذه المهمة تتشكل لديهم ردات فعل قاسية تجاه المجتمع، مما يجعلهم عرضة للضبط والسيطرة من جهات تحقق لهم هذا الطموح بالإعجاب، وأخيرا، الأشخاص الذين يتسمون بعدم النضج، ومن صفات هؤلاء؛ التبعية، والتي لها صلة وثيقة بالتجسس لأنها تجعل الشخص عرضة للتلاعب، إذ يعتمد هذا النوع من الأشخاص على العلاقات "الآمنة" للتخلص من القلق على المستقبل أو الحاضر.

"وهذه الأصناف الثلاثة يمكن للوعود بمستقبل أفضل وآمن أن تؤثر على قرارهم بالتجسس، لأنها تتمركز حول ذاتها التي تمثل بالنسبة لها المعيار الأهم في اتخاذ القرار"، كما يعلّق المحاضر في علم النفس بجامعة الأقصى فضل أبو هين في مقابلة مع "العربي الجديد".

الصورة
شكوى 3
شكوى تقدم بها 3 عملاء للحصول على إقامة في الداخل المحتل (العربي الجديد)

وتتناقض الروايات التي قدمها العملاء ومحاموهم في المحاكمات التي يوثقها التحقيق، مع ما هو منشور على موقع الشاباك من إجراءات لمساعدة الجواسيس الهاربين، والتي تشمل: نقل الجاسوس وأسرته للداخل، وتوفير مسكن له، وتقديم المساعدة المالية التي تمكنه من بدء حياته الجديدة وإدارة شؤونه بمفرده، وفرز مرشدين لمساعدته وعائلته بالتعرف على الحياة في الداخل، وتطوير برامج تعليمية ومهنية لأبناء الجاسوس بما في ذلك تعلم اللغة العبرية، والمساعدة في تنظيم وضعه القانوني، والمساعدة في إيجاد وشراء سكن دائم، ويعلّق شهوان على ذلك قائلا إن بعض الجواسيس بعد هروبهم، تواصلوا مع عائلاتهم لفحص إمكانية عودتهم مقابل العفو، بسبب الظروف السيئة التي عاشوها.

الصورة
صراع على إثبات العمالة

 

العملاء في "الغيتو" 

تشير دراسة تحمل عنوان "ثمن المعلومة: استيعاب وتأهيل مساعدي الأذرع الأمنية في المدن الإسرائيلية"، من إعداد قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية بالقدس، ونشرت في مايو 2017، واستندت في نتائجها إلى 960 مراجعة قضائية قدمها عملاء إلى المحكمة العليا، إلى أن 90% من الشكاوى كانت بسبب سحب تصاريح إقامة من العملاء والتراجع عن وعود قدمتها لهم مخابرات الاحتلال خلال فترة تقديمهم معلومات عن المقاومة الفلسطينية، إذ تقدر قيمة الوفاء بهذه الوعود ما بين 2 - 5 ملايين شيقل.

ويتضح من تفاصيل 400 ملف لجواسيس مهددين بالطرد إلى الضفة وقطاع غزة، أنهم يعانون من إشكاليات مع المحيط الاجتماعي في مدن وبلدات الداخل المحتل بسبب عدم تقبل الفلسطينيين هناك لفكرة وجودهم بالقرب منهم، وهو ما يؤكد عليه عضو المكتب السياسي لحركة أبناء البلد لؤي الخطيب، الذي اعتقل في 1998 بشبهة حرق منزل أحد الجواسيس الهاربين. 

ويوضح الخطيب أن فلسطينيي الداخل المحتل يرفضون إقامة علاقات اجتماعية مع الجواسيس الهاربين، فمثلا لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم، ولا يشاركونهم أفراحهم وأحزانهم، بل وخرجوا بمظاهرات في الناصرة والطيرة، ووصل الأمر إلى حد وقوع مواجهة بين الطرفين في بلدتي برطعة وباقة الغربية (بين عامي 1998 و2000)، لافتا إلى أن الاحتلال جمع عدداً منهم في حي أشبه بـ"الغيتو" يفتقد للبنية التحتية بالطيرة، شمال فلسطين المحتلة، ويتم استغلال حاجتهم للمال من قبل عصابات الجريمة المنظمة وتوكل إليهم مهام بالسرقة والقتل وينتهي بهم المطاف بالسجن.

ويجد بعض العملاء أنفسهم مضطرين للبقاء في زنازين بعد هربهم من الضفة أو قطاع غزة نتيجة عدم حصولهم على تصريح إقامة، وبالتالي يكملون في استدراج المعتقلين الجدد، للحصول منهم على معلومات عن المقاومة، ولكن بالمحصلة هذا يعني أنهم يقضون حياتهم في السجن هربا من الموت وطلبا لاحتياجاتهم الأساسية التي ترفض مخابرات الاحتلال توفيرها لهم، كما يوضح الأسير المحرر جمعة التايه، الذي قضى 26 عاما في سجون الاحتلال ويحمل درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية.