لم يفقد النازحون السوريون منازلهم ومحتوياتها فقط وإنما حتى إمكانية إعادة إعمار المهدم جزئياً، إذ جرى نهب حديد التسليح وأسلاك الكهرباء وحتى ألومنيوم النوافذ، ليعاد صهر وإعادة تدوير المعادن التي تباع رغم خطورتها.
- يتحسر المحامي السوري أنور المحمد الخضر، على تدمير ونهب منزله الواقع في بلدة سلوك بمنطقة تل أبيض التابعة لمحافظة الرقة شمال سورية، إذ تعرض لقصف من مدفعية النظام المتمركزة في قرية رنين مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2012، ثم نهبت محتوياته، ولكنه لم يكن يتوقع أن تصل خسارته إلى حد نهب حديد التسليح وسحب أسلاك الكهرباء من الجدران وحتى ألومنيوم النوافذ تم خلعه وسرقته، كما يقول النازح السوري المقيم في ألمانيا مضيفا لـ"العربي الجديد": "في 15 يونيو/حزيران 2015، تلقيت اتصالا من أحد أقاربي يبلغني بأنه شاهد عناصر من وحدات حماية الشعب YPG (فصائل مسلحة كردية وإحدى مكونات مليشيات سورية الديمقراطية "قسد")، تقتحم المنازل في المنطقة وتفرغها من محتوياتها ومن ثم بدأ آخرون في سحب كل ما يمكن بيعه كخردة".
ويعد منزل الخمسيني الخضر، واحدا من بين 300 مبنى ومنشأة حكومية (قصفت خلال معارك "قسد" مع تنظيم داعش الإرهابي) في مدن الرقة والطبقة ومنبج، وتعرضت للهدم ونهب الخردة منها خلال الفترة من أغسطس/آب 2016 وحتى بداية العام 2022، كما يقول مضر حماد الأسعد، الناطق باسم مجلس العشائر في المنطقة الشرقية، والذي يؤكد أن الرقم السابق تم التوصل إليه عبر الرصد الميداني للمنازل المدمرة والمنهوبة، ويتفق معه كل من عباس شريفة الباحث في مركز جسور للدراسات (مؤسسة مستقلة)، والمهندس عبد الرزاق عليوي مدير دائرة صيانة مشاريع حوض الفرات بالرقة سابقا وعضو الهيئة السياسية لمحافظة الرقة (تهتم بالشأن المحلي في المحافظة)، والذي يقول إن مدينتي الرقة والطبقة تعرضتا للحصة الأكبر من التدمير خلال معارك "قسد" مع "داعش".
12707 مبان تعرضت لتدمير متفاوت الشدة في الرقة
و"تصاعد الصراع في مدينة الرقة (كانت خاضعة لسيطرة داعش) خلال الفترة ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وحتى أكتوبر 2017، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية وتشريد الغالبية العظمى من سكانها"، وفق تقرير "تقييم شدة الأضرار بواسطة الأقمار الصناعية" الصادر في أبريل/ نيسان 2021 عن خدمة المعلومات ReliefWeb التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ويوضح التقرير أنه "عبر صور الأقمار الصناعية تم اكتشاف 1667 هيكلا متضررا أو مدمرا في فبراير/شباط 2017، وارتفع العدد الإجمالي للمباني المتضررة الموثقة إلى 12707 مبان بحلول أكتوبر 2017".
مصادر الخردة في مناطق قسد
في منطقة سلوك نُهبت الخردة من 4 منازل أخرى، وفق ما وثقه معدا التحقيق عبر إفادات المصادر ومنهم الخضر، الذي يقول إنه يحتفظ بفيديو لما حل بمنزله من أجل مقاضاة المسؤولين عن نهبه حين تسنح له الفرصة. ومن تلك المنازل التي تعرضت للقصف والنهب لاحقا، بيت مؤمل العيسى، الذي عاد إلى منزله مع أسرته بعد السماح بعودة السكان إلى البلدة في بداية عام 2017، لكنه اكتشف أنه تحول إلى كومة من الحجارة، بدون نوافذ ولا أبواب وحتى الصنابير والأسلاك وغيرها من أنواع الخردة تم سحبها من الجدران، كما قال لـ"العربي الجديد".
ونُهبت الخردة من المباني المهدمة بالإضافة إلى هياكل السيارات المحطمة وآليات الحفر والبناء المدمرة، وخطوط السكك الحديدية، ومخلفات الأسلحة كما يقول الباحث شريفة، الذي جمع المعلومات عبر مصادر ميدانية كما الأسعد وعليوي، وتقول المصادر التي تواصلت معها "العربي الجديد" في المنطقة عبر واتساب وطلبت عدم الكشف عن هويتها حفاظا على أمنها، إن بيع الخردة في المنطقة التي تسيطر عليها مليشيات سورية الديمقراطية يتم عبر مناقصة داخلية يتم الإعلان عنها ضمن دائرة ضيقة من التجار والمقاولين المرتبطين بأعضاء المجلس التنفيذي لقسد، وتشير إلى أنه جرى الإعلان عن مناقصات لاستخراج الخردة من مبان حكومية مهدمة، رغم أن بعضها قابل للترميم وإعادة الإعمار، وعقب رسو المناقصة على المقاول يبدأ في عملية الحفر لاستخراج الحديد من الموقع وبيعه لأحد معامل إعادة تدوير الحديد وتجديده ويحدد السعر حسب نوعيّة الحديد وسماكته وقابليته لإعادة التدوير ومن ثم يباع في السوق بأسعار متفاوتة بحسب إفادات 3 مقاولين رست عليهم مناقصات، وطلبوا عدم الكشف عن هوياتهم خشية تعرضهم لضغوط من قبل أجهزة قسد الأمنية، بينما تؤكد بيريفان الخالد، الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية بشمال وشرق سورية، أن مناقصات استخراج الخردة من البنايات أو المؤسسات الحكومية المدمرة، كانت تجري بشكل مفتوح وضمن دفتر وشروط المناقصات بحسب معايير المؤسسات المعنية بهذا الأمر وضمن سياسات الإدارة لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
معامل قسد لتدوير الحديد
يقول سلمان بارودو، الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية، في رسالة لمعد التحقيق عبر واتساب، إن معامل إعادة تدوير الحديد تتبع شركة النفط العاملة في مناطق الإدارة الذاتية بمنطقة رميلان شمال شرق سورية، بينما أعلن مجلس الرقة المدني على الصفحة الرسمية له في موقع "فيسبوك"، عن افتتاح معمل قرية السلحبية في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2017، وتزامن الافتتاح مع عمليات إزالة الأنقاض في مدينة الطبقة، والتي شارفت على الانتهاء ما اقتضى إعادة تدوير الحديد المستخرج من البنى التحتية التي تعرضت للدمار، بحسب ما جاء في الإعلان.
و"تبدأ مرحلة إعادة تدوير الحديد المستخرج من مدينة الطبقة في المعمل بعد فرز أنواعه بين ثقيل وخفيف، ثم يتم تصحيح الانحناءات في القضبان، والتي تنقل بعدها إلى الفرن الحراري الذي يعرضها لدرجات حرارة عالية من أجل تشكيله ويقسم إلى 4 فئات متفاوتة السماكة، والمرحلة الأخيرة يتم فيها تقطيع القضبان المعاد تدويرها إلى قياسات متساوية وتجميعها لإعادة تسويقها من جديد"، وفق المصدر ذاته.
الحديد المعاد تدويره يفقد الكثير من خصائصه بعد تعرضه للحرارة العالية
ويباع أغلب الحديد المعاد تدويره في تلك المعامل بمناطق سيطرة "قسد" لسكان تلك المناطق من أجل استخدامه في عمليات إعادة البناء، وفق ما يؤكده كل من الأسعد ومحمد العنابرة أحد تجار الحديد في الرقة، والذي يقول إن الحديد المستخرج من المباني المهدمة والمعاد تدويره يصلح للاستخدام في الأبنية غير الطابقية، لكنه ليس بجودة الصلب غير المعاد تدويره ويختلف سعره حسب العرض والطلب، لكن المهندسة شيرين الفارس العلي الرئيسة المشتركة للجنة الإدارة المحلية والبلديات بالرقة والتي تتبع قسد حذرت في 18 يوليو/تموز 2021 من خطورة استخدام الحديد المعاد تدويره في البناء، إذ يفقد الكثير من خصائصه بعد تعرضه للحرارة العالية والصهر ويفقد مقاومته للعوامل الخارجية، مؤكدة إصدار تعميم لكافة البلديات التابعة بمنع استخدام الحديد المعاد تدويره في المشاريع التي تنفذ من قبلهم.
وتضم مناطق سيطرة قسد 3 معامل كبيرة تضم مصاهر وآليات وخطوط إنتاج لإعادة تدوير الحديد، وأكثرها أهمية معمل الفرقة 17 شمال مدينة الرقة، حسبما يقول الأسعد، ويقدر الطاقة الإنتاجية اليومية للمعمل الذي تم افتتاحه في يونيو 2018 بين 25 و30 طنا ويستقبل الحديد المستخرج من مختلف مناطق سيطرة قسد، خاصةً مدينتي الرقة ومنبج، فيما تتراوح الطاقة الإنتاجية لمعمل السلحبية (يقع على بعد 35 كيلومترا شرق مدينة الرقة) بين 15 و20 طنا من الحديد بينما تتراوح الطاقة الإنتاجية اليومية لمعمل المشلب في حيّ المشلب شرق مدينة الرقة والذي تم افتتاحه في نوفمبر 2019، بين 5 و7 أطنان، كما يقول الأسعد وشريفة ومقاول يعمل في المنطقة طلب عدم الكشف عن هويته حفاظا على أمنه، مقدرا متوسط الإنتاج اليومي للمعامل المذكورة بأنه يناهز 50 طناً.
انتهاك القوانين الدولية
يبدي مؤمل العيسى حسرته كما الخضر على محتويات منزله من حديد وخردة قد تكون صهرت في واحد من المعامل الموجودة بالمنطقة كما يقول، مضيفا: "استنفدت مدخراتي بعد عودتي من أجل إعادة بناء وتجهيز منزلي حتى يصلح لكي يعيش فيه أطفالي مرة ثانية".
وينتهك ما حدث للخضر والعيسى وغيرهم ممن فقدوا منازلهم، قواعد القانون الدولي الإنساني التي تنص على الحفاظ على أملاك النازحين والمشردين، وتمثل عمليات السرقة انتهاكا ضد حقوق الإنسان وتعدياً على حقوق الملكية، كما أنها تسهم في استمرار التشريد القسري لكون النازحين غير قادرين على العودة في ظل غياب البنية التحتية ومنازلهم التي تمت سرقتها، كما يقول فضل عبد الغني رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان (مستقلة)، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن مخاطر هذه الانتهاكات الممنهجة قد تعطي صبغة عرقية، لأنها ضد المناطق ذات الأغلبية العربية.
وتشير الفقرة الثانية من البند 21 من المبادئ التوجيهية بشأن النزوح الداخلي (تتناول الاحتياجات الخاصة للمشردين داخلياً في جميع أنحاء العالم)، والتي وضعتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى أهمية "توفر الحماية، في جميع الظروف، لأموال وممتلكات المشردين داخلياً من النهب". فيما نصت الفقرة الثالثة من ذات المبدأ على "توفر الحماية للأموال والممتلكات التي يتركها المشردون داخليا وراءهم وذلك من التدمير والاستيلاء التعسفي وغير القانوني، وأيضا من شغلها أو استخدامها"، لكن بيريفان الخالد تقول إن سكان مدينة الرقة هم من يجمعون الحديد من بين الركام ويبيعونه نتيجة سوء حالتهم المادية، كما تعاقد الكثير من أصحاب البيوت مع شركات خاصة من أجل بيعهم الخردة، بعدها تحولت عمليات الردم وإظهار الحديد إلى عمل واستثمار من قبل الشركات والمتعهدين وأصحاب الأبنية المدمرة ضمن اتفاقيات بين الطرفين.