تنخرط الإدارة الموريتانية في عملية محاصصة وتوزيع للريع عبر مناصب المستشارين والمكلفين بمهمة في جهات هامة، مثل رئاسة الجمهورية والوزارات، ليستمر إهدار المال العام ويزيد الترهل الإداري ما يخل بتوزيع الموارد العامة
- تناضل نقابات المهن الصحية في موريتانيا من أجل زيادة رواتب العاملين في القطاع، في ظل تحديات كورونا والمخاطر الكبرى التي تهدد حياتهم، ومن بينهم الأطباء، إذ يتقاضى الطبيب العام 230 ألف أوقية موريتانية قديمة راتباً شهرياً مع العلاوات (الدولار الأميركي يساوي 360.12 أوقية قديمة و36.12 أوقية جديدة) كما يقول لـ"العربي الجديد" الدكتور محمد المصطفى ولد إبراهيم، الأمين العام للاتحاد العام للعمل والصحة ونقيب أطباء الأسنان الموريتانيين، مضيفاً: "ما يتقاضاه الطبيب (العامل الأبرز في المنظومة الطبية)، لا يكفيه لمواجهة متطلبات الحياة، وليس أمام المعينين في المشافي الحكومية إلا العمل خارج أوقات الدوام في مشافٍ خاصة لضمان عيشة كريمة".
وبينما ينتظر عمال الصحة وفاء الحكومة بالتزامها بزيادة نسبة الرواتب 79% ابتداء من العام المقبل وحتى عام 2024، بعد تراجعها عن الاتفاق مع نقابات مهن الصحة بزيادة الرواتب في عامي 2019 و2020، بحسب إفادة الدكتور ولد إبراهيم، فإن رواتب وعلاوات المستشارين والمكلفين بمهمة في رئاسة الجمهورية و14 وزارة من بين 23 وزارة موريتانية، تلتهم 0.5% من موازنة الأجور والرواتب لعام 2021 والمقدرة بـ 19 مليار أوقية جديدة، وفق توثيق معدّي التحقيق عبر تقدير قيمة الرواتب التي يتقاضاها المستشارون والمكلفون بمهمة، ونسبتها إلى حجم الموازنة الوراد في قانون المالية. وهو ما يراه الحسين ولد إسماعيل الخبير المالي المتقاعد، ومدقق الحسابات سابقاً في وزارة الداخلية واللامركزية: "مبالغ كبيرة ليس لها مردودية حقيقية، يمكن قياسيها عبر مهام محددة المعالم".
يوافقه النائب المستقل عن دائرة نواكشوط محمد الأمين ولد سيدي مولود، قائلاً لـ"العربي الجديد": "أغلب المستشارين والمكلفين بمهمة لا نرى عائداً من ورائهم يبرر تعيينهم، والجهات التي تُعينهم لا تملك رؤية واضحة حول أسباب الحاجة إليهم"، ويصف تلك التعيينات بالترضيات السياسية والاجتماعية، والنتيجة بحسب سيدي مولود، إهدار المال العام وترهل إداري.
هدر للمال العام
"يحصل المستشارون والمكلفون بمهمة على منح مالية دون تكاليف بمتابعة ملفات"، وفق ما جاء في التقرير السنوي العام الصادر عن محكمة الحسابات (هيئة عليا مستقلة تعنى برقابة الأموال العمومية) في إبريل/ نيسان 2017 للأعوام (2010 و2011 و2012) والذي يؤكد أنه "تم منح مستشارين ومكلفين بمهام في وزارة الداخلية واللامركزية 15 مليون أوقية من الصندوق الجهوي للتنمية الحكومي دون أية إشارة إلى تكليف لهم بالمتابعة المتعلقة بالصندوق"، ويوضح أن "هذا الإنفاق خارج مجال الصندوق".
"وكان الأفضل أن تساهم تلك الأموال في المشاريع التنموية ومواجهة البطالة التي تبلغ نسبتها 10.7%، بحسب البنك الدولي، وغيرها من التحديات التي تعاني منها الدولة الموريتانية" وفق إفادة محفوظ ولد الجيلاني، المكلف بالإعلام في المركز العربي الأفريقي للإعلام والتنمية (مؤسسة مستقلة للدراسات).
ووثق معدّا التحقيق عبر مراسيم التعيين والموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية وبيانات مجلس الوزراء ومواقع الوزارات الرسمية عمل 19 مستشاراً ومكلفاً بمهمة في رئاسة الجمهورية، بالإضافة إلى 99 مستشاراً و56 مكلفاً بمهمة في 14 وزارة موريتانية رصدها معدّا التحقيق.
ويتقاضى المستشار بالرئاسة راتباً شهرياً يقدر بمليون و200 ألف أوقية قديمة، ويحصل المكلف بمهمة في نفس الجهة على مبلغ يقدر بمليون و100 ألف أوقية قديمة. فيما يتقاضى المستشار بالقطاع الوزاري 400 ألف أوقية قديمة، والمكلف بمهمة 350 ألف أوقية قديمة شهرياً، وفق البرلماني سيدي مولود، وتأكيد أستاذ العلوم السياسية في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الحكومي ورئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية، الدكتور ديدي ولد السالك، والذي حصل على تلك التقديرات عبر وزارة المالية.
ووفق العملية الحسابية التي أجراها معدّا التحقيق، فإن إجمالي الرواتب السنوية للمستشارين والمكلفين بمهمة بالرئاسة و14 وزارة يصل إلى 966 مليون أوقية قديمة، منها 475 مليوناً و200 ألف أوقية قديمة رواتب سنوية لـ 99 مستشاراً في تلك الوزارات، و235 مليوناً و200 ألف أوقية قديمة رواتب سنوية لـ 56 مكلفاً بمهمة فيها، و255 مليوناً و600 ألف أوقية قديمة رواتب سنوية لـ 19 مستشاراً ومكلفاً بمهمة في رئاسة الجمهورية.
ويستفيد المستشار والمكلف بمهمة في رئاسة الجمهورية من علاوات الوظيفة بقيمة 50 ألف أوقية وعلاوة تعويض عن السكن والنقل 54 ألف أوقية، وعلاوة الخدمة المنزلية 46 ألف أوقية، ويستفيد المستشار والمكلف بمهمة على المستوى الوزاري من علاوة الوظيفة 50 ألف أوقية، وعلاوة النقل 55 ألف أوقية، بحسب المرسوم رقم 061 لسنة 2017 (صدر المرسوم قبل إقرار التداول بالأوقية الجديدة).
ترضيات سياسية واستحواذ على المناصب
يتم تعيين المستشارين والمكلفين بمهمة بناء على مكانتهم السياسية أو الاجتماعية أو الدينية أو خلفيتهم العسكرية، وهو منصب وهمي يحصل المعينون من خلاله على نصيب من موارد الدولة على حساب مهمة القطاع ورسالته الاجتماعية، فضلاً عن تعيين شيوخ قبائل رؤساء مجالس إدارات لمؤسسات سيادية عملاقة، لقربهم من أحد أقطاب الدولة، وفق ولد الجيلاني، الذي أكد لـ"العربي الجديد" عدم تحديد طبيعة عمل المكلفين بمهمة.
ما سبق يبدو واضحاً عبر بيانات مجلس الوزراء، التي لم تحدد طبيعة عمل المكلفين بمهمة الذين عيّنهم مجلس الوزراء خلال الفترة من 20 يناير/ كانون الثاني وحتى 3 مارس/ آذار الماضي، وعددهم 30 مستشاراً و14 مكلفاً بمهمة، يتوزّعون على وزارة الشؤون الاجتماعية والطفولة والأسرة، بقوام 6 مستشارين واثنين مكلفين بمهمة، ووزارة التهذيب الوطني والتكوين التقني والإصلاح بقوام 14 مستشاراً وسبعة مكلفين بمهمة، وعشرة مستشارين وخمسة مكلفين بمهمة في وزارة الشؤون الاقتصادية وترقية القطاعات الإنتاجية.
تعيين 44 مستشاراً ومكلفاً بمهمة في ثلاث وزارات خلال شهر ونصف
وعيّن الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني 11 مكلفاً بمهمة (بينهم معارضون) في 18 سبتمبر/ أيلول 2019، دون تحديد طبيعة مهامهم، ومنهم محمد محمود ولد أمات (كان نائباً لرئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض)، ويحيى ولد كبد وزير سابق وقيادي في حزب العهد الوطني للديمقراطية والتنمية "عادل"، وأحمد سالم ولد محمد فاضل نائب رئيس تيار "راشدون" الداعم لولد الغزواني، والمنسحب من حزب "تواصل".
ويعلّق الدكتور ولد السالك على ذلك بالقول:" كل هذه التعيينات عبارة عن ترضيات سياسية لدعمهم الرئيس ولد الغزواني أثناء حملته الانتخابية الرئاسية الماضية"، مضيفاً: "المستشار لا يستشار والمكلف بمهمة لا يكلف".
يوافقه في الرأي الخبير المالي ولد إسماعيل، مؤكداً أن المستشارين والمكلفين بمهمة نتاج المحاصصة والاستغلال السيئ للمناصب السامية وعدم الاكتراث السياسي بخطورة ما يجرى على حساب المصلحة العليا للوطن، ويقول: "يوجد لوبي متغلغل في مفاصل الدولة مكوّن من كبار الشخصيات المؤثرة، تستحوذ ودوائرها على مختلف التعيينات".
المصالح الخاصة في موريتانيا تؤثر على الوظائف العامة بشكل كبير ومباشر
وتتأثر الوظائف العامة بشكل كبير ومباشر بالمصالح الخاصة في موريتانيا، إذ لم يتم إضفاء الطابع المؤسسي على عملية تعيين كبار المسؤولين الإداريين على أساس الجدارة والإدارة القائمة على الأداء، ولا يزال منطق السعي للحصول على الريوع سائداً عبر طبقات الإدارة، مما يتسبب بالإخلال بالسياسات العامة والحد من المساءلة عن تقديم الخدمات، وفق ما وثقته دراسة تشخيصية منهجية عن موريتانيا أصدرها البنك الدولي في مايو/ أيار 2017 بعنوان "تحويل التحديات إلى فرص من أجل القضاء على الفقر وتعزيز الرفاه المشترك"، والتي حذرت من أن "المحسوبية في الإدارة العامة لا تزال تشوه الهياكل التحفيزية وتؤثر على قدرات توزيع الموارد العامة وتقديم الخدمات".
مبررات حكومية
يردّ مصدر في رئاسة الجمهورية (طلب عدم الكشف عن اسمه، لأنه غير مخول بالحديث للإعلام)، مبرراً كثرة تعيينات المستشارين والمكلفين بمهمة، قائلاً: "منصب المستشار والمكلف بمهمة من صلاحيات رئيس الدولة والوزراء ولهم الحق في تعيين من يرونه مناسباً والعدد الذي يرونه كافياً".
وهنا يوضح رئيس الوزراء الأسبق يحيى ولد أحمد الواقف أن لكل المؤسسات العمومية، كالرئاسة والوزارة الأولى والوزارات، هيكلاً تنظيمياً يحدّد العناصر الضرورية للمؤسسة، ويكون العدد مفتوحاً في بعض الأحيان، خاصة أن المهام تستحدث في دول العالم الثالث، نتيجة عوامل سياسية واجتماعية، مشيراً إلى أن الأمر يتعلق بالبرامج التنموية التي تقوم بها المؤسسة، وبالتالي تكون الحاجة لعدد من الأشخاص، كمستشارين أو مكلفين بمهمة.
ويقول الواقف: "التقييم من خارج هذه المؤسسات ومن قبل من لا يعرف مهامها ووسائلها أمر يستحق منا التحفظ عليه، لأن استكثارهم عدد المستشارين أو المكلفين بالمهام في إحدى المؤسسات يعني عدم اطلاعهم على شأنها الداخلي".
تبريرات تخالف ما أكدته مصادر التحقيق، ومنها الخبير المالي ولد إسماعيل، والذي يعتبر الاستشارة من أهم وأدق وجوه التسيير والتوجيه، إذ يعمد المسؤولون إلى تعيين خبراء من أصحاب الدراية والحنكة والفطنة ليقلصوا قدر الممكن من أخطائهم وإخفاقاتهم وانزلاقاتهم في مجمل عملهم، وهو ما لا ينطبق على الحالة الموريتانية.