تتفاقم معدلات دفع الرشى في العراق، ولا تقتصر على مستويات عليا، بل تبدأ من أدنى السلم الإداري إذ يضطر مراجعون في دوائر حكومية متنوعة إلى إنجاز معاملاتهم والحصول على حقوقهم العادية بواسطتها وإلا ضاعت عليهم.
- دفع الأربعيني العراقي حسين أحمد رشوة بقيمة 300 دولار أميركي في دائرة التسجيل العقاري بمحافظة ميسان جنوب العراق حيث يسكن، من أجل أن يتمكن من تسجيل ملكيته لمنزل اشتراه بمساحة 100 متر، إذ عجز عن إكمال معاملته، بحجة وجود توجيه بعدم تسجيل المساحات الصغيرة.
يقول أحمد لـ"العربي الجديد": "دفعت المبلغ عبر محام وسيط في عام 2017، ودخلت إلى مكتب مدير دائرة السجل العقاري طالبا منه المساعدة في إتمام المعاملة، لكنه رفض، غير أنني ذكرته بأني من طرف المحامي، عندها قاطعني موقعا على ورقة موجهة إلى الموظف المعني من أجل إتمام المعاملة". لكن علي قاسم وهام، مدير التسجيل العقاري في محافظة ميسان، يرد قائلا لـ"العربي الجديد": "لا توجد شكاوى ضد الدائرة أمام أي جهة قضائية أو رقابية، والدائرة مستعدة لاستقبال شكاوى المواطنين".
نفي وهام تدحضه، نتائج استبيان قياس مُدركات الرشوة في دوائر مديريَّة التسجيل العقاري العامَّة والذي نفذته هيئة النزاهة الاتحادية (حكومية مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب) بمشاركة 11 ألف مراجع في 44 دائرة ببغداد و14 محافظة عراقية، وكشفت عن ارتفاع في نسب (دفع الرشوة أو تعاطيها)، إذ بلغ المُعدَّل العام لدفع الرشوة في دوائر بغداد 31.77%، وسجلت دائرة التسجيل العقاري في البياع أعلى نسبة لدفع الرشوة 44.2% تلتها كلٌّ من الرصافة الثانية – البتاوين 41.6% والكرخ الأولى – المنصور 41.4% والكرخ الثانية – العامريَّة 40.1%.
وخلص استبيان شمل 20 دائرة حكومية في عموم العراق، نفذته هيئة النزاهة الاتحادية، إلى أن نسبة مدركات الرشوة في العراق بلغت 10.57%، فيما بلغت نسبة حالات دفع الرشوة 4.18%، وفق التقرير السنوي لعام 2020 الصادر عن الهيئة.
سبل إنجاز المعاملات
بلغ المُعدَّل العام لدفع الرشوة في دوائر بغداد 31.77%
ويضطر 45.8% من دافعي الرشاوى إلى اللجوء إليها من أجل تسريع الإجراءات الإدارية، ويضطر أكثر من الربع 26.6% إلى دفع رشاوى للحصول على معاملة أو خدمة أفضل، وفق الدراسة ذاتها. وهو ما يؤيده سعيد ياسين موسى، رئيس تحالف من أجل النزاهة (شبكة منظمات مجتمع مدني)، مؤكدا لـ"العربي الجديد": "البيروقراطية العالية وعدم التعامل الإنساني من قبل الموظفين، يجبر المتعاملين على الرشوة، وخاصة في المنافذ ذات التماس المباشر مع المواطنين، مثل الجوازات، وشهادة الجنسية العراقية ثم مديرية المرور العامة ودائرة الأحوال المدنية"، مضيفا أن الفساد في العراق تحرك من الأعلى أي المناصب السياسية الكبيرة نزولا إلى المناصب الدنيا.
ومن واقع تجربة فؤاد غانم الأستاذ في كلية الهندسة بجامعة الموصل، فإن التعامل مع دوائر المرور يعتبر علامة على الرشوة في العراق، قائلا :"في نينوى يصنعون الكثير من العراقيل لمساومة المواطن، مثلا استمارة إجازة السياقة بالأصل إلكترونية، لكن لا يتم توفيرها إلا من خلال موظف المرور، ليتكدس المواطنون في طوابير طويلة ومهينة، ومن يشترِ كرامته ووقته يدفع المال"، مضيفا لـ"العربي الجديد" :"دفع الرشوة يتم من خلال "كُتاب العرائض" ممن يجلسون عادة عند بوابة المديرية ويعملون وسطاء بين المواطنين من جهة وبين ضباط وموظفي مديرية المرور.
ويتابع غانم: "أخبرني أحد الوسطاء بشكل واضح وبصوت عال: إذا أردت أن تأتيك استمارة إجازة السياقة الإلكترونية وأنت مرتاح في مكانك خلال عشر دقائق ادفع"، مضيفا: "حصلت على الاستمارة الإلكترونية كاملة بكافة التفاصيل وموقعة من المرور واستخبارات وزارة الداخلية ودفعت مبلغا يوازي 60 دولارا".
ويرد العميد سامي عبد الخالق، مدير مرور نينوى شمال العراق، قائلا: "قبل أكثر من سنة عادت مديرية المرور للعمل في نينوى بعد إغلاقها لسبع سنوات، ونعم كان هناك زحام كبير من قبل المراجعين. والطوابير عادة ما تفتح المجال للرشوة واللجوء للوسيط بين المواطن والموظف، لكننا قضينا على هذا الأمر خلال أيام بزيادة عدد الموظفين وساعات العمل". ويضيف لـ"العربي الجديد":" المواطن هو المسؤول عن دفع الرشوة واستخدام الوسيط بينه وبين موظفي المرور".
الفساد يقتل أحلام العراقيين
تتباين نسبة انتشار ظاهرة الرشوة بين الأقاليم العراقية، إذ بلغت في العاصمة 29.3% والمحافظات الأخرى 10.2% وإقليم كردستان 3.7%، وفق دراسة "الفساد والنزاهة في القطاع العام العراقي".
وتتعرض نسبة 5.2% من موظفي الخدمة المدنية في بغداد لعروض الرشوة أكثر من نظرائهم في المحافظات الأخرى، بينما تعرض 60% من إجمالي موظفي الخدمة المدنية للرشوة، وفق الدراسة، والتي توضح أن أعلى معدلات الرشوة تنتشر بين المتعاملين مع موظفي تسجيل الأراضي والشرطة وموظفي الضرائب والعائدات.
ولا يختلف الوضع كثيرا في المدن التي تخلصت من تنظيم "داعش"، مثل الموصل، إذ يتعرض المواطنون لابتزاز الموظفين، وفق الثلاثيني أبو محمد (اسم مستعار لدواع أمنية)، والذي دمر منزله جراء العمليات العسكرية خلال استعادة المدينة، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أنه تنقل خلال عامي 2018 و2019 بين اللجنة المركزية لتعويض ضحايا الإرهاب في بغداد، واللجان الفرعية في نينوى، والتي قدرت تعويضاته بـ 150 مليون دينار عراقي (103 آلاف دولار أميركي) ليحكم القاضي في الموصل باستحقاقه 50% من مبلغ التعويض الذي قدرته اللجنة.
ويقول: "عندما وصل الأمر إلى اللجنة المركزية في بغداد، تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد الموظفين هناك، يخيرني بين استلام 30 مليون دينار (حوالي 21 ألف دولار) أو ضياع المعاملة والأوراق، فوافقت على مضض".
محاولات خجولة للمواجهة
يؤكد التقرير السنوي لهيئة النزاهة الاتحادية أن عدد أوامر الاستقدام القضائية المتعلقة بجريمة الرشوة والتي صدرت خلال عام 2020 بلغ 197 أمرا، كما بلغت أوامر القبض 124 أمرا، وبلغت أوامر التوقيف 104 أوامر، وبلغت عمليات الضبط بالجرم المشهود للرشوة 53 عملية. فيما بلغت أوامر الإحالة بجريمة الرشوة إلى محكمة الجنح والجنايات 188 أمرا. وصدر 22 حكما قضائيا بالإدانة في جريمة الرشوة.
حل العراق في المرتبة 160 عالمياً بمؤشر مدركات الفساد
وتمكنت هيئة النزاهة الاتحادية من ضبط 24 موظفا تسلموا رشى في 19 دائرة حكومية، بينهم 12 مسؤولا، خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، وفق ما وثقته معدة التحقيق من الموقع الرسمي للهيئة، والتي رصدت صدور أحكام قضائية ضد خمسة موظفين حكوميين بسبب تلقيهم للرشوة، بينهم مدير عام بوزارة الكهرباء، كان يشغل منصب المدير العام للدائرة الاقتصاديَّة في وزارة الكهرباء سابقاً، والذي حكمت عليه محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزيَّة في القضيَّة التي حَقَّقَتْ فيها، بالتعاون مع لجنة الأمر الديواني 29، بحبس المُدان مُدَّة أربع سنواتٍ وغرامةٍ ماليَّةٍ؛ استناداً إلى أحكام القرار 160 لسنة 1983، لتسلمه ملياراً و350 مليون دينار عراقي (مليون دولار)، لتمرير عقدٍ كان يُفترَضُ أن يُبرَمَ بين وزارة الكهرباء ووزارة الصناعة والمعادن؛ لتجهيز معداتٍ لوزارة الكهرباء.
لكن عمليات الضبط هذه ومحاكمة بعض المتهمين بجريمة الرشوة، لم تحد من الظاهرة، وفق ما توصل إليه التحقيق، ويرجع رئيس تحالف من أجل النزاهة، تصاعد معدلات الرشوة في مؤسسات الدولة إلى غياب الرقابة الاستباقية التي كانت متمثلة بمكاتب المفتشين العموميين (تأسست وفق أمر سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة رقم 57 لسنة 2004) على المؤسسات والدوائر الحكومية، بعد حل تلك المكاتب بموجب القانون رقم 24 لسنة 2019، بحجة عدم الدستورية والعجز عن مكافحة الفساد في البلاد، فضلا عن استمرار غياب الحوكمة الإلكترونية والاعتماد بشكل كامل على المعاملات الورقية.
ويحجم بعض المراجعين عن الإبلاغ عن دفع رشاوى، نتيجة لصعوبة إثبات ذلك، وعدم وجود رادع حقيقي للمرتشي، فضلا عن تعاون المسؤول مع الشخص الذي يطلب رشوة من خلال تأمين الحماية له، مقابل التقاسم معه، بحسب إفادة زياد السنجري، المتحدث باسم مرصد أفاد (يُعنى برصد وتوثيق الانتهاكات الإنسانية والمخالفات القانونية في العراق)، لكن الثلاثيني صافي محمد (اسم مستعار لدواع أمنية) رفض عدم الإبلاغ عن طلب دفع رشوة بقيمة 1000 دولار أميركي لمسؤول بالمركز الطبي في مطار بغداد مقابل تمرير ملف فحوصاته الطبية ما يؤهله للانضمام إلى دورة للطيران المدني تنظمها شركة الخطوط الجوية العراقية، وبالفعل قدم شكوى رفقة زميل له، وتمكن من تسجيل طلب الرشوة عبر جواله (حصلت العربي الجديد على التسجيل) كما قدم أوراق فحوصات طبية تثبت عدم معاناته من أي مشكلة في القلب مثلما ادعى المسؤول، لكن حتى اليوم لم يحصل على أي نتيجة بينما نال آخرون فرصته.