آثار قبرص الإسلامية... أعوام من الإهمال لمواقع على قائمة التراث العالمي

18 اغسطس 2024
وصلت المواقع الأثرية إلى حالة مزرية قبل التدخل لترميمها (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تدهور الآثار الإسلامية**: تعاني الآثار الإسلامية في قبرص من تآكل وتدهور كبيرين نتيجة الإهمال وقلة الصيانة، مثل مسجد توزلا ومسجد بيروستيرونا، رغم إدراج بعضها ضمن قائمة اليونسكو وتوفر المخصصات المالية.

- **المسؤولية والتمويل**: تُعنى مديرية الآثار القبرصية بحماية وصيانة المواقع الأثرية، بما في ذلك 19 موقعاً إسلامياً، بتمويل من ميزانية الدولة ومنح دولية، لكن التحقيقات أظهرت تدهوراً كبيراً في حالة العديد من المساجد.

- **آلية الترميم والتحديات**: تتولى مديرية الآثار مسؤولية أكثر من 1500 موقع أثري، وتحدد الأولويات بناءً على حالة المواقع. رغم وجود مخصصات مالية كبيرة، إلا أن الإهمال أدى إلى تدهور العديد من المواقع، مما يثير تساؤلات حول فعالية عمليات الترميم.

تواجه آثار قبرص الإسلامية تبعات مرور الزمن وإهمال الصيانة والترميم، ما أسفر عن تضرر مواقع مدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، بالرغم من توفر المخصصات المالية.

- كان باب مسجد توزلا Tousla Mosque الحديدي الواقع ضمن البلدة القديمة لمدينة لارنكا على الشاطئ الجنوبي لجزيرة قبرص، مشرعاً، حين وصل إليه معدّ التحقيق في إبريل/نيسان عام 2022، وجال في أنحاء المسجد المُشيّد بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، في موقع كان لكنيسة بيزنطية أرثوذكسية قبل أن يصبح مسجداً عثمانياً في عام 1571، بحسب دراسة للباحثة إيلينا باباكريستوفورو، حول السياحة في قبرص، نشرتها الجامعة التقنية الوطنية في أثينا في سبتمبر/أيلول 2016.

ولا يخفى للعيان حال الضرر الذي وصل إليه المسجد، نتيجة تآكل أجزاء من جدرانه الداخلية والخارجية، حتى أن حفنات من الأتربة تتساقط فور لمسها بفعل الرطوبة المتفشية، ما يدلّ على إهمال الصيانة والترميم لفترات طويلة، وبالفعل كانت آخر مرة خضع فيها للصيانة في عام 1995 بحسب كتاب "تاريخ لارنكا" الصادر عن بلدية المدينة عام 2005.

 

أعوام من الإهمال لمواقع على قائمة التراث العالمي

في محيط مسجد بيروستيرونا Peristerona Mosque على بعد 32 كيلومتراً عن العاصمة، انتشرت عبارات تحذر من الاقتراب بحسب ما يوثقه التحقيق بالفيديو بعد زيارة للموقع في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ويعود التحذير إلى تهالك البناء الذي يعد موقعاً أثرياً، إذ يتميز بمئذنة ذات شرفتين، وهو الثاني من نوعه بعد المسجد العمري الموجود في نيقوسيا، بحسب تعريفه ضمن بيانات مكتب الصحافة والإعلام لجمهورية قبرص، وبعد أعوام بدأت عمليات ترميم لمئذنته، وفقاً ليورجوس يورجيو، مدير مديرية الآثار القبرصية، موضحاً في رده المكتوب الذي تلقاه "العربي الجديد" في 10 يوليو/تموز 2024 أن "العمل على ترميمه لا يزال جارياً، وبلغت تكلفته حتى الآن مليون يورو بتمويل حصري من جمهورية قبرص".

مسجد بيريستيرونا Peristerona Mosque

ويبلغ عدد أماكن العبادة الإسلامية في قبرص 101 موقع، من بينها 19 أدرجت على قائمة التراث العالمي (ترشحها لجنة التراث العالمي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو")، ويدخل مسجدا توزلا وبيروستيرونا ضمنها، بحسب وثيقة بعنوان "أماكن العبادة الإسلامية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة في جمهورية قبرص"، والمنشورة على موقع وزارة الخارجية في يناير/كانون الثاني 2014، وتزعم أن: "الآثار الدينية الإسلامية التسعة عشر في حالة ممتازة بعد إطلاق برنامج الترميم العلمي المتقدم في مديرية الآثار عام 1995 والذي انتهى فعلياً عام 2012"، كما تؤكد أنه يتم تنفيذ أعمال الترميم سنوياً لهذه المواقع الدينية المهمة للمجتمع القبرصي التركي.

لكن ما عاينه معد التحقيق ووثقه من أضرار بالصور والفيديو مستمر على مدار الأعوام الماضية دون صيانة وترميم تحفظ تلك الأماكن من الانهيار، وتتلخص الأضرار في تهالك البناء، والهياكل الحجرية، الداخلية والخارجية، في ظل وجود عشرات الحفر الكبيرة في الجدران والتي تسمح بدخول مياه الأمطار والهواء وإضعاف دواخل المباني، ففي مسجد توزلا على سبيل المثال، يتداعى البناء وتبدو آثار الانهيار واضحة في الجدران الطينية من الخارج وأجزاء كبيرة من الداخل، أما مسجد بيروستيرونا، فيختصر مشهداً مؤسفاً من الإهمال، وحجارته التي كانت تتهاوى قبل الشروع في ترميم المئذنة، تشكل أكبر دليل على ذلك.

وينسحب الحال على جامع قرية كوفينو Kofinou الذي يبعد 22 كيلومتراً عن لارنكا، وهو مهجور ومهمل مثل بقية الأماكن ويسارع السكان بالجوار إلى التحذير من الدخول إليه بسبب الضعضعة الشديدة في مبناه، إذ وثقت كاميرا "العربي الجديد" تشققات جدرانه، ووجود تهدم في الحجارة قرب بعض نوافذه، بينما بركة الوضوء الواقعة في ساحته حاصرتها الأعشاب والحشائش.

جامع كوفينو   (Kofinou Mosque)

ولم يختلف الوضع في جامع ماروني Maroni الذي تم إعماره عام 1892 في قرية ماروني في مدينة لارنكا، بحسب رئيس البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة في قبرص، جاكونجير خيداروف، والذي أشرف مع اللجنة الفنية المشتركة للتراث الثقافي للطائفتين اليونانية والتركية (تشكلت بقرار من الأمم المتحدة عام 2021 لإيجاد حلول لقضايا التراث الثقافي بين الطائفتين) على مشروع ترميم الجامع في إبريل/نيسان 2023 بحسب تقرير صادر عن اللجنة، بعدما كان قد وصل إلى حالة مزرية عاينها معدّ التحقيق في زيارته عام 2022، إذ كان السقف مهدماً وجرت تغطيته بألواح خشبية، في حين تحول الجامع إلى مستقر لأعشاش الطيور التي تدخل عبر النوافذ المشرعة، علماً بأن الجامع كان مدرسة تعليميّة للأطفال القبارصة المسلمين، بحسب تأكيد سكان المنطقة.

 

من المسؤول عن حماية هذه المعالم؟

في عام 2015، أصدر مكتب الصحافة والإعلام، نشرة عن أماكن العبادة الإسلامية في قبرص، يؤكد فيها أن الحكومة ملزمة بصيانة تلك الأماكن وحمايتها وترميمها. الأمر ذاته، جاء في كتاب حمل عنوان أماكن العبادة الإسلامية في قبرص وصدر في العام ذاته، ويؤكد الكتاب أن الحكومة السابعة عشرة صنفت المواقع الإسلامية الموجودة في نيقوسيا وليماسول ولارنكا وبافوس ضمن الآثار والتراث القديم، وبموجب قانون الآثار القبرصي رقم 31 الصادر عام 1964، أصبحت حمايتها والحفاظ عليها من مسؤولية مديرية الآثار.

19 موقعاً أثرياً إسلامياً مدرجة على قائمة التراث العالمي

ويعرّف القانون في الفقرة الرابعة المعالم الأثرية بأنها "أي شيء، سواء كان منقولاً أو جزءاً من الممتلكات غير المنقولة، وهو عمل معماري أو نحت أو رسم أو أي فنّ بشكل عام، تم إنتاجه، أو نحته، أو كتابته، أو رسمه، أو تشييده بشكل عام بواسطة الطاقة البشرية بطريقة ما وبأي مادة قبل عام 1850، والتي تم العثور عليها أو اكتشافها أو التنقيب عنها في قبرص، وهي أشياء من العصور القديمة"، وتعتبر وزارة الاتصالات والنقل والأشغال هي المسؤولة عن ترميم الآثار عبر مديرية الآثار التابعة لها بحسب القانون.

الصورة
رد تلقاه العربي الجديد من مديرية الآثار القبرصية 7 أغسطس 2023 (العربي الجديد)
مديرية الآثار القبرصية تؤكد في ردها على "العربي الجديد" مسؤوليتها عن حماية التراث الثقافي (العربي الجديد)

وتقرّ مديرية الآثار في ردها المكتوب على "العربي الجديد" بتاريخ 7 أغسطس/آب 2023، بأنها السلطة المختصة بالأمور المتعلقة بالتراث الأثري للبلاد، وتُعنى بإقرار التشريعات وإعداد المشاريع ومخصصات الميزانية السنوية والمنشورات والإعلانات العامة والمؤتمرات ومعارض المتاحف والمواقع الأثرية المفتوحة للجمهور، والمحافظة على جميع الآثار القديمة المدرجة بغض النظر عن العصر الزمني أو الفئة الوظيفية، مؤكدة أنه من غير المهني ويتعارض مع مدونة الأخلاق والمعايير الموضوعة دولياً، حماية التراث الثقافي على أساس الانتماء العرقي.

الرد السابق، دفع "العربي الجديد" إلى إرسال المقاطع المصورة للجوامع الأربعة التي رصد حالتها، لسؤال المديرية حول مسؤوليتها عن الحالة التي وصلت إليها، لتعود في ردها اللاحق بتاريخ 10 يوليو 2024 إلى الإشارة إلى أنه "منذ الغزو التركي عام 1974 أصبحت الممتلكات التابعة للأوقاف الإسلامية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، بما في ذلك المساجد، ضمن مسؤولية وزير الداخلية حتى تتم تسوية القضية السياسية، وبالنسبة للآثار التسعة عشر المدرجة في قائمة يونسكو، فإن المسؤولية مشتركة بين وزارة الداخلية ومديرية الآثار، مثل مسجدي توزلا وبيروستيرونا، "أما كوفينو وماروني فإنهما لا يقعان ضمن مسؤولياتها كونهما غير مدرجَين على القائمة".

مسجد توزلا Tousla Mosque

ويرفض يورجيو اعتبار مسجد توزلا "مهملاً أو يتعرض لأي نوع من المخاطر الهيكلية"، قائلاً في رده بتاريخ 3 يونيو الماضي أنه: "يجري العمل على إعداد مشروع لترميمه يشمل النصب التذكاري القريب منه، تحت رعاية اللجنة الفنية المشتركة للتراث الثقافي للطائفتين"، ويبدي استغرابه، عقب اطلاعه على الصور ومقاطع الفيديو، من أن "المساجد المذكورة بحاجة إلى الترميم"، قائلاً إن هذه "صور نسبية (أي لا تعكس حالة الآثار الإسلامية ككل من وجهة نظره)، وبعضها التقطت ليلاً، من داخل سياج المسجد، رغم أنه لا يُسمح بالدخول إلا للموظفين المصرح لهم لأسباب تتعلق بالسلامة"، وفق قوله، علماً أن معد التحقيق لم يلتق بأي حراس ولم يتدخل أحد لمنعه من الدخول.

الصورة
رد تلقاه العربي الجديد من مديرية الآثار القبرصية 3يونيو 2024(العربي الجديد)
شرعت مديرية الآثار القبرصية بترميم مئذنة مسجد بيروستيرونا بينما تدرس إمكانية ترميم مسجد توزلا (العربي الجديد)

وأحال "العربي الجديد" ما وثقه من صور ومقاطع فيديو تبين الحالة المزرية التي وصلت لها مواقع أثرية إسلامية قبل التدخل لصيانتها إلى سوتوس كتوريس، رئيس اللجنة الفنّية المشتركة للتراث الثقافي للطائفتين، والذي اكتفى بالقول: "يمكنني أن أؤكد لكم أنّه لا يوجد أي إهمال من جانب اللجنة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على التراث الثقافي لجزيرتنا".

 

ما هي آلية الترميم؟

"تتولى مديرية الآثار مسؤولية أكثر من 1500 موقع أثري، إذ تراقب المواقع وتقرر مدى الحاجة إلى التدخلات اللازمة بعد مراعاة مجموعة متنوعة من العوامل، ما يؤدي إلى تحديد الأولويات بهدف الحفاظ على الآثار، وفي النهاية وضع جدول زمني لتنفيذ أعمال الترميم"، بحسب توضيح يورجيو، في الرد المكتوب الذي تلقاه "العربي الجديد".

جامع ماروني (Maroni Mosque  )

تطبق كل دولة منهجية عمل مختلفة في مجال الترميم، كما أن كل مبنى يتم التعامل معه على أنه حالة خاصة، وفي الوقت ذاته يجب على الجهات المعنية التدخل في الوقت الملائم لأن إهمال الترميم وقلة الاهتمام بالمبنى تضرّان به، ويتفاوت الضرر بحسب عوامل عديدة منا مواد البناء، وفقاً لما أوضحته رهام السيد أحمد، الحاصلة على شهادة الماجيستير في هندسة العمارة، والمختصة بمجال ترميم المباني الأثرية وإعادة تأهيل المواقع التاريخية والطبيعية، والتي أوضحت أن المختصين يقررون طبيعة الترميم اللازم للمبنى بعد إجراء فحص لمعرفة ماذا طرأ من تغييرات، ثم دراسة مواد البناء لاتخاذ قرار حول احتياجات المبنى إن كان بحاجة إلى التدعيم فقط، لكن في حالة وجود تشققات يتم التعامل معها بالشكل الملائم.

1500 موقع أثري تتولى مديرية الآثار القبرصية مسؤوليتها

وتوجد مخصصات مالية ضمن الميزانية السنوية تتعلق بالآثار التسعة عشر المدرجة على قائمة التراث العالمي، ويصر يورجيو على أن أعمال الترميم تحوز غالبية ما يتم إنفاقه سنوياً. "ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، أعمال الترميم المكثفة التي أجريت لمسجد زهوري في لارنكا الذي نفذته المديرية بتمويل مشترك من الاتحاد الأوروبي من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتكلفة 220 ألف يورو، ومشروع الترميم الجاري للمسجد الكبير في ليماسول بتمويل من سلطنة عُمان وبمساهمة جمهورية قبرص، وكلّف حتى الآن أكثر من 700 ألف يورو.

الصورة
رد تلقاه العربي الجديد من مديرية الآثار القبرصية 10 يوليو 2024(العربي الجديد)
يبين رد مديرية الآثار القبرصية أن المخصصات المالية للترميم متوفرة (العربي الجديد)

وتؤكد وثيقة "أماكن العبادة الإسلامية" المذكورة سابقاً، أنه بين عامي 1989 و1990 شرعت الحكومة بإعادة إحياء 83 مكاناً للعبادة الإسلامية في المناطق التي تسيطر عليها بكلفة 206 آلاف و120 يورو.

وفي السنوات الممتدة بين عامي 1975 و1999، أنفقت إدارة الآثار في جمهورية قبرص 294 ألفاً و620 يورو من أجل إحياء أماكن العبادة الإسلامية المدرجة على قائمتها وفقاً لقانون الآثار. وبين عامي 2000 و2013 تم تخصيص 6.186 ملايين يورو بغرض ترميم أماكن العبادة الإسلامية بما فيها الأثرية. وبين عامي 2014 و2018 قدمت المفوضية الأوروبية عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لحكومة قبرص منحة مالية قدرها 2.429 مليون يورو، من أجل ترميم بعض الآثار الدينية، بإشراف اللجنة الفنية المشتركة للطائفتين، وفق ما نشر على الموقع الإلكتروني للبرنامج.

وما سبق، يؤكد أن مبالغ الدعم المالي لمشاريع ترميم الآثار الدينية في قبرص مستمرة وكبيرة، لكنها بالتأكيد لا تتناسب مع ما عاينه "العربي الجديد" من تهالك في المواقع التي جال فيها.