ثارت غضبة الشيخ المعمَّم، وقام هائجاً مستغفراً متعوذاً، عندما اكتشف أن عبده الحامولي يغني على مقام النهاوند، تاركاً خلفه مقامات الحجاز والسيكا والبياتي، واصفاً الأمر بالكفر المبين والزندقة، وأنها بدعة جديدة جاء بها من إسطنبول، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. كان الشيخ الثائر مؤمناً بتراث السلف ونهجهم الصالح في الغناء. ولم تثنه عن ثورته محاولة بعض الحضور إقناعه بأن في الأمر سعة، وأن الحامولي رجل صالح لا يترك فرضاً من فروض الصلاة، ولا يجوز أن نصفه بتلك الصفات المخرجة من الملة! ولكن بعدما انفضوا من حول الشيخ، واتجهوا إلى مطربهم يسمعون ويستمتعون، بدأ الهدوء يعود إلى الشيخ شيئاً فشيئاً، ثم قال: "الله الله، حاجة لطيفة خالص". ولسان حاله يقول: "هو دا الغنا ولا بلاش". ثم عاد إلى مكانه مستمتعاً مع الجماهير، بالغناء الجديد!
هذا المشهد الكوميدي في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" لحلمي رفلة (1962)، يصور جانباً حقيقياً من حكاية عبده الحامولي الذي وصفه نقاد عصره بأنه صار رائد الغناء الحديث.
الهروب الكبير
في عام 1836 وفي مدينة طنطا، ولد عبده الحامولي، وإن كان لقب والده الحامولي يعود إلى "الحامول"، إحدى قرى محافظة المنوفية. أرسله والده إلى الكُتَّاب ليحفظ القرآن، لكنه لم يلبث أن أهمله لصالح الغناء ومتابعة المشايخ وحلقات الذكر والإنشاد في الحفلات والموالد، وهو ما دفع الأب لمزيد من القسوة لكي ينصلح حال ولده المفتون. لم يفلح الأمر، وهرب عبده بصحبة أخيه الأكبر من بيت أبيه إلى غير رجعة.
التقى عبده المعلم شعبان فآواه، وكان ذلك حدثاً فاصلاً في حياته، فقد كان شعبان يجيد العزف على العود ويحب الغناء، ولذا اكتشف سريعاً موهبة الطفل عبده، وأعطاه دروساً في الغناء والعزف، وقدمه في بعض الحفلات في طنطا، فأصاب نجاحاً كبيراً، فقررا الانتقال للقاهرة حيث بدأ يغني في قهوة "عثمان آغا" بالأزبكية، التي زاد الإقبال عليها مع ظهور الفتى.
أراد المعلم شعبان أن يوثق علاقته بالمطرب الشاب الصاعد بسرعة كبيرة، فزوجه ابنته. لكن طموح الحامولي الفني جعله يحقق نجاحاً تلو الآخر، وبدأ يغنّي أغنياته الخاصة بعد أن كان يعيد أغاني مطربي عصره ويقلدهم، فترك قهوة "عثمان آغا" وطلق ابنة المعلم شعبان، بعد أن صار نجم الغناء الأول في المحروسة متجاوزاً المطربيين التقليديين أمثال محمد المقدم وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان ومحمد سالم.
اقــرأ أيضاً
اقترب الحامولي من الخديوي إسماعيل، وسافر معه إلى الأستانة، وهناك تعرف إلى الموسيقى التركية وهام بها، فتخير منها ما يلائم المزاج المصري، فلما عاد استخدم مقامات لم يكن للمصريين سابق عهد بها، مثل مقام "الحجاز كار"، الذي لحن منه أدواره الخالدة: "إنت فين والحب فين"، "مليك الحسن في دولة جمالك"، "الله يصون دولة حسنك"، وغيرها.
آراء النقاد
لاحظ النقاد أن الحامولي يتجاوز كونه مطرباً عذب الصوت، بل هو مجدد عظيم. يقول المؤرخ الموسيقي قسطندي رزق في كتابه "الموسيقى الشرقية والغناء العربي"، الذي صدر سنة 1936: "أخذ المرحوم عبده بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها، مضيفاً إليها ما عنّ له من النغمات، تمشياً مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحَها بروح مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم، فرماه لذلك المحترفون والرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم، وتبديل نَبْرِهِ الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضارباً عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة ويشوهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس، فانتهى به الأمر إلى أن انتصر عليهم جميعاً، واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران؛ فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال...".
كما يقول عنه الموسيقار أحمد شفيق أبو عوف (1919-2004): "تربع الحامولي على عرش الغناء في مصر بعد أن توفرت لديه عبقرية الخلق وإعجاز الأداء، ولم تجتمع هاتان النعمتان لرجل واحد إلا وبلغ أوج الشهرة وأوج الثراء، وأول هؤلاء عبده الحامولي وآخرهم محمد عبد الوهاب، وقد استطاع الأول أن يجند الفن ويسخر العلم ليضع قالباً موسيقياً جديداً هو الدور الغنائي المصري، الذي جعل له تقليداً في التلحين والأداء لا زال متبعاً حتى اليوم، ليس في مصر فحسب وإنما في البلاد العربية جمعاء".
بينما يقول عنه محمود أحمد الحفني (1896-1973): "جدد عبده ما شاء الله له أن يجدد، فهذب التواشيح والقدود التي تلقاها عمن سبقه فخلقها خلقاً جديداً، وبث فيها من روحه بما أفاض عليها البهاء والرواء والروعة، ومصّر الطريقة الحلبية التي كان لا يتغنى آنذاك بغيرها، فمزجها بالأنغام التركية التي تلقاها من مشاهير مطربي الأستانة وموسيقييها أثناء زياراته المتكررة لها في صحبة الخديوي إسماعيل، فعرفت موسيقانا نغمات النهاوند والحجاز كار والعجم عشيران، فصانت بها ثروة لا تعدلها ثروة، وكانت في مقدمة أسباب عظمة عبده وخلود اسمه وفنه".
ويضيف الحفني: "جدد عبده في التلحين والإلقاء، فعدل عن طريقة التوجع والأنين إلى الطريقة التي تضادها، واستغنى عن ألحان الضعف والتخنث بألحان القوة والرجولة، فاستساغ الشعب هذا الضرب من الغناء، وارتاحت له نفوسهم، واطمأنت إليه".
اقــرأ أيضاً
مع ألمظ
نافست ألمظ (1860-1896)، عبده الحامولي في الغناء والشهرة زمناً، لكن هذه المنافسة انتهت بزواجه منها، فاعتزلت الغناء، وكان لرحيلها وهي لا تزال شابه أثر شديد على عبده وحياته وفنه. يقول الملحن صَفَر علي (1884-1962): "كان عبده رقيق الإحساس، لطيف الشعور، رحيم القلب، يفيض عطفاً وحناناً، وإنك لتقرأ الأسى سوراً مفصلات، وتحس أنيناً موجعاً في الدور الذي لحنه متأثراً بوفاة زوجه المرحومة ألمظ المغنية ذائعة الصيت، (شربت الصبر من بعد التصافي) من مقام العشاق المصري".
كما تعددت الروايات التي يتداولها الناس على رقة قلبه وعطفه على الناس وخاصة الفقراء، منها ما ذكره الأديب السماح عبد الله من أن الحامولي كان دائم الزيارة لجامع السيدة زينب، وكان يحيي في بعض الأحيان أفراح الفقراء من رواد السيدة زينب مجاناً ليسمعه هؤلاء البسطاء ويستمتعوا بغنائه.
اقــرأ أيضاً
تراثه الغنائي
ترك عبده الحامولي 16 دوراً غنائياً تعد ذخيرة لحنية كتب لها الخلود لجمالها ولكونها صارت نماذج استقى منها الدارسون والفنانون منهاجاً جديداً في الغناء المصري، وهي: فؤادي جد به حالات (مقام رصد)، مالك الجمال لك سعادة (مقام سوزناك)، يا منية الأرواح جد لي بوصلك (مقام نهاوند)، أنا من هجرك أحكي خصرك (مقام عشاق)، كان مالي في حبك كان مالي (مقام صبا)، ياللي خليت من الحب (مقام عراق)، قلبي في حبك (مقام راست)، عشق الجمال لي جميل (مقام عراق)، يحاول عزولي سلو الجمال (مقام نهاوند)، فؤادي أسألك قول لي (مقام عراق)، أنت فريد في الحسن (مقام الحجاز)، الحلو لما انعطف (مقام بياتي)، سباني سهام العين (مقام عراق)، شربت الصبر من بعد التصافي (مقام عراق)، الصبر محمود لمثلي (مقام حجاز كار)، مليك الحسن في دولة جمالك (مقام حجاز كار).
وفي 12 مايو/ أيار 1901 توفي عبده الحامولي وعمره 65 عاما، وقد رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدته: "ساجع الشرق تولى عن أوكاره".
الهروب الكبير
في عام 1836 وفي مدينة طنطا، ولد عبده الحامولي، وإن كان لقب والده الحامولي يعود إلى "الحامول"، إحدى قرى محافظة المنوفية. أرسله والده إلى الكُتَّاب ليحفظ القرآن، لكنه لم يلبث أن أهمله لصالح الغناء ومتابعة المشايخ وحلقات الذكر والإنشاد في الحفلات والموالد، وهو ما دفع الأب لمزيد من القسوة لكي ينصلح حال ولده المفتون. لم يفلح الأمر، وهرب عبده بصحبة أخيه الأكبر من بيت أبيه إلى غير رجعة.
التقى عبده المعلم شعبان فآواه، وكان ذلك حدثاً فاصلاً في حياته، فقد كان شعبان يجيد العزف على العود ويحب الغناء، ولذا اكتشف سريعاً موهبة الطفل عبده، وأعطاه دروساً في الغناء والعزف، وقدمه في بعض الحفلات في طنطا، فأصاب نجاحاً كبيراً، فقررا الانتقال للقاهرة حيث بدأ يغني في قهوة "عثمان آغا" بالأزبكية، التي زاد الإقبال عليها مع ظهور الفتى.
أراد المعلم شعبان أن يوثق علاقته بالمطرب الشاب الصاعد بسرعة كبيرة، فزوجه ابنته. لكن طموح الحامولي الفني جعله يحقق نجاحاً تلو الآخر، وبدأ يغنّي أغنياته الخاصة بعد أن كان يعيد أغاني مطربي عصره ويقلدهم، فترك قهوة "عثمان آغا" وطلق ابنة المعلم شعبان، بعد أن صار نجم الغناء الأول في المحروسة متجاوزاً المطربيين التقليديين أمثال محمد المقدم وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان ومحمد سالم.
اقترب الحامولي من الخديوي إسماعيل، وسافر معه إلى الأستانة، وهناك تعرف إلى الموسيقى التركية وهام بها، فتخير منها ما يلائم المزاج المصري، فلما عاد استخدم مقامات لم يكن للمصريين سابق عهد بها، مثل مقام "الحجاز كار"، الذي لحن منه أدواره الخالدة: "إنت فين والحب فين"، "مليك الحسن في دولة جمالك"، "الله يصون دولة حسنك"، وغيرها.
آراء النقاد
لاحظ النقاد أن الحامولي يتجاوز كونه مطرباً عذب الصوت، بل هو مجدد عظيم. يقول المؤرخ الموسيقي قسطندي رزق في كتابه "الموسيقى الشرقية والغناء العربي"، الذي صدر سنة 1936: "أخذ المرحوم عبده بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها، مضيفاً إليها ما عنّ له من النغمات، تمشياً مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحَها بروح مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم، فرماه لذلك المحترفون والرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم، وتبديل نَبْرِهِ الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضارباً عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة ويشوهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس، فانتهى به الأمر إلى أن انتصر عليهم جميعاً، واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران؛ فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال...".
كما يقول عنه الموسيقار أحمد شفيق أبو عوف (1919-2004): "تربع الحامولي على عرش الغناء في مصر بعد أن توفرت لديه عبقرية الخلق وإعجاز الأداء، ولم تجتمع هاتان النعمتان لرجل واحد إلا وبلغ أوج الشهرة وأوج الثراء، وأول هؤلاء عبده الحامولي وآخرهم محمد عبد الوهاب، وقد استطاع الأول أن يجند الفن ويسخر العلم ليضع قالباً موسيقياً جديداً هو الدور الغنائي المصري، الذي جعل له تقليداً في التلحين والأداء لا زال متبعاً حتى اليوم، ليس في مصر فحسب وإنما في البلاد العربية جمعاء".
بينما يقول عنه محمود أحمد الحفني (1896-1973): "جدد عبده ما شاء الله له أن يجدد، فهذب التواشيح والقدود التي تلقاها عمن سبقه فخلقها خلقاً جديداً، وبث فيها من روحه بما أفاض عليها البهاء والرواء والروعة، ومصّر الطريقة الحلبية التي كان لا يتغنى آنذاك بغيرها، فمزجها بالأنغام التركية التي تلقاها من مشاهير مطربي الأستانة وموسيقييها أثناء زياراته المتكررة لها في صحبة الخديوي إسماعيل، فعرفت موسيقانا نغمات النهاوند والحجاز كار والعجم عشيران، فصانت بها ثروة لا تعدلها ثروة، وكانت في مقدمة أسباب عظمة عبده وخلود اسمه وفنه".
ويضيف الحفني: "جدد عبده في التلحين والإلقاء، فعدل عن طريقة التوجع والأنين إلى الطريقة التي تضادها، واستغنى عن ألحان الضعف والتخنث بألحان القوة والرجولة، فاستساغ الشعب هذا الضرب من الغناء، وارتاحت له نفوسهم، واطمأنت إليه".
مع ألمظ
نافست ألمظ (1860-1896)، عبده الحامولي في الغناء والشهرة زمناً، لكن هذه المنافسة انتهت بزواجه منها، فاعتزلت الغناء، وكان لرحيلها وهي لا تزال شابه أثر شديد على عبده وحياته وفنه. يقول الملحن صَفَر علي (1884-1962): "كان عبده رقيق الإحساس، لطيف الشعور، رحيم القلب، يفيض عطفاً وحناناً، وإنك لتقرأ الأسى سوراً مفصلات، وتحس أنيناً موجعاً في الدور الذي لحنه متأثراً بوفاة زوجه المرحومة ألمظ المغنية ذائعة الصيت، (شربت الصبر من بعد التصافي) من مقام العشاق المصري".
كما تعددت الروايات التي يتداولها الناس على رقة قلبه وعطفه على الناس وخاصة الفقراء، منها ما ذكره الأديب السماح عبد الله من أن الحامولي كان دائم الزيارة لجامع السيدة زينب، وكان يحيي في بعض الأحيان أفراح الفقراء من رواد السيدة زينب مجاناً ليسمعه هؤلاء البسطاء ويستمتعوا بغنائه.
تراثه الغنائي
وفي 12 مايو/ أيار 1901 توفي عبده الحامولي وعمره 65 عاما، وقد رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدته: "ساجع الشرق تولى عن أوكاره".