الحسن بن شعرة... مأساة المضحّكاتي

30 أكتوبر 2018
المضحكاتي في مأساته... تنكّر له الجميع (Getty)
+ الخط -
ارتفعت الأسعار في مصر وضاقت صدور الناس واندلعت الاحتجاجات، فنزل الحاكم أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية بنفسه إلى الشارع، ليهدئ العباد، ويعاقب رافعي الأسعار، خصوصاً القمّاحين والخبازين.

وبينما كان على حصانه ازدحم الناس ليروا حاكمهم. ومن فوق أحد الأسطح كانت النساء يشاهدن سيّد البلاد من بين أصص الريحان.

فجأة، جاءت امرأة لتحظى برؤية ابن طولون. وهي تزاحم النسوة أوقعت أصيصاً من فوق، وطج طراااخ نزل الأصيص على كفل الحصان، فوثب مذعوراً، وكاد الحاكم يطيح على الأرض.

هدأ الحصان، فنادى ابن طولون، من أين وقع الأصيص؟ فقيل من سطح بيت الحسن بن شعرة.

جيء بالرجل، ومزّقت ثيابه في الميدان وجلد بالسوط ثلاثمئة جلدة، بحسب ابن الداية كاتب الدولة الطولونية، وخمسمئة جلدة بحسب تاريخ المقريزي، وطافوا به على جَمل، وما هي إلا سويعة حتى مات.

لكن

إن كنت لا تعلم عزيزي القارئ، فإن نكبة الحسن بن شعرة لم يكن سببها أصيص ريحان وقع على حصان، بل لأنه نجم ستاند أب كوميدي، متهكم، موهوب في تقليد الآخرين، ومضحّكاتي.


وفي مصر كان ابن شعرة مقرباً من ابن المدبّر. ومن ابن المدبّر؟ إنه أحد أركان الدولة العباسية العميقة، الذي كانت بينه وبين ابن طولون الطموح إلى استقلال مصر خصومةٌ، وحاول أن يكيد له في الصراع على السلطة، بيد أنه فشل.

الحسن بن شعرة ضاع بين الأرجل. ففي سهرات ابن المدبّر، تبدأ وصلة الضحك، ونجمها بالطبع ابن شعرة. وفي يوم تجرأ وقلّد ابن طولون، في طريقة جلوسه وطريقة كلامه، فأضحك ابن المدبّر وضحكت البطانة.

وصلت الأخبار إلى الحاكم فاستدعاه، وأنكر ابن شعرة ما ذكر عنه، فأنذره الإنذار النهائي "فلن يبلغني بعد هذا شيء أكرهُه إلا أتيتَ على نفسك".

لكنْ، يموت الزمّار وأصابعه تلعب. ما إن جاءت السهرة التالية وطُلب من الحسن بن شعرة أن "يشعللها"، حتى أخذته النشوة ونسي الإنذار النهائي، وبدأ تقليد رجل مصر القوي. بلغ ابن طولون ما جرى فـ"هزّ الرأس وقال أنا أهوى الأطفال"، وحانت نهاية ابن شعرة.

من المؤكد أن الحسن كانت له شهرة شعبية بوصفه فنان "ستاند أب كوميدي"، يعرفه الجمهور ويطلبه في الأسواق وساحات المساجد بعد أو قبل الصلاة، وفي الأعراس والسهرات العائلية.

فالشخص الموهوب في تقليد الآخرين وتحضير الاسكتشات وارتجال المواقف الكوميدية، لم تنقص موهبته. إلا أن صفة "المضحّكاتي" تحيل على توظيف الصنعة، توظيف الإضحاك، مبتعدة عن أصلها الأول.

المضحكاتي تشيع موهبته في إضحاك الآخرين. يكتسب سمعة بين العباد، بوصفه القادر على ملء وصلة أمام الجمهور، فيقلد، ويبتدع النكات، ويسخر، ثم حين يتخصص في إضحاك رجالات السلطة، تجيّر صنعته وتختزل إلى مضحكاتي موظف، حدوده حدود البلاط، كشاعر البلاط وظيفته أن يكتب شعراً للبلاط. كصحافيّ السلطة الذي يعرف ألف باء الصحافة، لكنه يحولها إلى دعاية حين يخدم السلطة.

وفي النهاية، أصبح ذكر المضحّكاتي يتلازم مع اسم وليّ النِعم. قد لا يقع هذا مع الصحافي الذي يخدم سلطة الدولة عموماً، ومن ذلك يخدم رأسها، أو شاعر البلاط الذي يمجّد الدولة ورأسها بالضرورة العربية. المضحّكاتي مرتبط بأوقات الفراغ لدى الزعيم. يمكن تخيل الزمن المفضل لمشهد الضحك: غالباً ما يكون مسائياً. الزعيم والمضحّكاتي تجمعهما سهرة.

إضحاك الزعامة، تفضل أن يكون رزقها أعطيات، وهذه أكثر جزالة من الراتب الشهري بالطبع. ولنلاحظ أن الأعطية الكريمة المنتظرة، لقاء الإضحاك تسربت إلى الهيكل الوظيفي العربي المعاصر. هل يمكن تخيّل مؤسسة عربية من دون موظف، وظيفته التي توفر له الحظوة هي إضحاك المدير العام.

الحسن بن شعرة اختار أن يكون مضحّكاتي رمز من رموز الدولة العميقة. اختار طرفاً قوياً وهو ابن المدبر، ليسخر من شخصية ابن طولون، القوة الصاعدة الذي مسح كل معارضيه عن بكرة أبيهم.

يخطر ببالي أن حادثة وقوع الأصيص على الحصان مدبّرة. لم لا؟ ففي دهاليز وألاعيب السياسة لك أن تتوقّع كل شيء. ربما استخدمت المرأة كي توقع الأصيص وتثير الحصان، وتشعل غضب ابن طولون الذي كان عليه حل مشكلة الاضطرابات بسبب زيادة الأسعار، فشغل الناس بحكاية الأصيص، بوصفها محاولة اغتيال.



أو ربما استبد الطيش بالحسَن ودبّر وقوع الأصيص على الحصان، كي تكون وصلة المضحكاتي بثاً حياً ومباشراً، فيقع ابن طولون عن الحصان وتضحك الجماهير في سرها. وهو لا يعلم بأن آخر عبارة قالها ابن طولون "بسيطة يا حسن".

أو ربما وقع الأمر مصادفةً، ليجري تأويله فوراً إلى محاولة اغتيال، والحكم عليه بالموت تنكيلًا في الميدان. ولو لم يقع الأصيص، لربما كانت للحسن بن شعرة فرصة للنجاة، كأن يمثل بين يدي ابن طولون ويستعطفه، ويحلف له أنها آخر مرة يقلّده، وينقلب على روحه ويعرض أن يكون مضحّكاتي بلاطه، فيقلّد خصمه ابن المدبر.

يمكن القول إنه لم ينته كما الزمّار الذي يموت وأصابعه تلعب. يمكن القول إنه لم يستخدم أداة في الصراع على السلطة، بل كان كارهاً لابن طولون، التركي العنيد الذي بدأ يستقل بمصر عن التاج العباسي، فاستخدم سخريته سلاحاً.

في كل حال، محزن مصير المضحّكاتي الساخر. الجميع يترفع عن اعتباره شهيداً، حتى لو قتلته السخرية دفاعاً عنهم أو عن قضية يؤمن بها. القضايا دائماً رفيعة المستوى وشهداؤها عابسون.

المساهمون