التوغّل في سيرة هاني شاكر طيلة أربعة عقود، لن يحمل الكثير من المفاجآت. الرجل هو هو: "أمير الغناء العربي"، الفنان الحساس، والموجوع في الحب والخيانات والطعنات. صاحب صوتٍ جميل، يحتفل سنوياً بـ"عيد ميلاد جرحه"، ومصري أصيل "بلده روحه عايشة فيه". فنان قادم من عصر الأغنية المصرية الجديدة الأول (عصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب...) وعابر إلى عصرها الثاني.
لعلّ مرور السنوات زاده لؤماً، فقط. ما كان يقوله في الثمانينيات والتسعينيات عن مغنين آخرين، يكرره اليوم لكن بشكل أكثر فجاجة ومباشرة. فمنذ إطلالته الأولى يكرّر مهاجمة زملائه الجدد، يخلق لنفسه حيثية أخلاقية وفنية تتيح له تقييم الجميع: هذا فنان، وهذا مؤدّ، وهذا متعدّ على الغناء. يبتسم بحياء، وترفّ عيناه عندما يتحدّث عن غنائه مع عبد الحليم حافظ، ثمّ تظهر ضحكة خبيثة عند حديثه عن "الآخرين".
في مقابلة له مع التلفزيون السوري عام 1982 (كما يشير الفيديو على يوتيوب) مع المذيع مروان صواف، يهاجم أحمد عدوية، أب الأغنية الشعبية المصرية الحديثة، "لن يدخل المعهد العالي للموسيقى لو تقدّم". يقولها بضحكة متعالية وخبيثة. يكرّر مهاجمة ظاهرة عدوية قائلاً إن الجمهور ابتعد عنه "لأن القناع سقط، والناس بتفوق، وبتعرف إن مش هو ده الفن ولا هي دي الأصالة". يهزّ رأسه ويبتسم بخفّة.
في مقابلة أخرى، في تلك الفترة نفسها، يخبر المشاهدين بأن "الجمهور عنده وعي، وبيعرف مين يقدر يغني قدام الكاميرا مباشر ومين لأ".
جاءنا هاني شاكر من السبعينيات، ابن انتصار أكتوبر، وابن المرحلة التي تلتها. جاءنا بينما كانت أم كلثوم تبتعد عن الأضواء، وعبد الحليم حافظ نجماً مطلقاً على عرشه. تفاصيل كثيرة رافقت ظهوره: اكتشاف محمد الموجي له، تشابه صوته وصوت "العندليب الأسمر"، ثمّ رأي هذا الأخير بأدائه... كل ذلك لا يهمّ. ما يهمنا أن شاكر عبر معنا إلى الثمانينيات. تلك الفترة التي عاشت فيها الساحة الموسيقية المصرية، ضبابية في الهوية، فلا "الزمن الجميل" (مع اختلاف تقييم جماليّته) موجود، ولا زمن ما بعد الجميل قد اتضح. لكن خيار هاني شاكر كان واضحاً: هو (كما يظنّ نفسه) امتداد للكبار. امتداد لتلك الحقبة التي صنعت مجد مصر الغنائي في العالم العربي.
نجح راعي الأصالة في مسيرته مرات كثيرة، وفشل مرات كثيرة، لكنه فعل كل ذلك بأدب، وبحسب مقتضيات أي فنان يحمل رسالة. حزن بأدب، وغضب بأدب، وتعالت ضحكته وهلت في سماه، بأدب أيضاً. ومع تقدم السنوات، وظهور نجوم آخرين، أبرزهم محمد منير وعمرو دياب، ثمّ غزو حميد الشاعري للسوق الموسيقية في مصر، بتوزيعاته الجديدة، بدأ قذف هاني شاكر تدريجياً إلى الهامش منذ منتصف التسعينيات. وتكرّس مكانه على الهامش مطلع الألفية الجديدة مع توسّع أنماط موسيقية جديدة مثل الراب، والروك، والإلكترو شعبي، والمهرجانات... بقي الفنان المصري موجوداً على الساحة، لكن بصفته المعنوية والأبوية أكثر منها الفنية، حتى عام 2015.
في تلك السنة، سيصبح أمير الغناء نقيباً للموسيقيين، ملكاً بسلطة مطلقة في نقابة. سيخلع عنه تلك الابتسامة الوديعة، والصوت المرهف والمنمّق، ليصبح حاكماً بأمره على الساحة الموسيقية المصرية.
بدا هاني شاكر منذ وصوله إلى النقابة الرجل المناسب للمرحلة التي تعيشها مصر: هزيمة ثورة 25 يناير، ووصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، وتراكم المعتقلين في السجون. من غير هاني شاكر قادر على تلبية تطلعات تلك الفترة الفنية؟ الابن البارّ لحقبة محمد حسني مبارك، الذي وقف مع محمد ثروت على مركب في النيل ليغني "بلدي"، في محاولة لإعادة إنتاج نمط الأغاني الوطنية التي كرسها نظام جمال عبد الناصر؟
لم يخيّب شاكر الظنّ. حوّل النقابة، سريعاً، إلى جهاز ــ بعبع أمني، يلاحق الفنانين والآلاتية، ورقيباً على عروضهم، ليكشف عمّا إذا كانوا استخرجوا تصريحاً للغناء والعزف، أم لا. جهاز نقابي لتقاضي الرشوة، ولتأمين وصاية الدولة على الأخلاق العامة، وعلى ذوق المتلقي.
هل عاد هاني شاكر لينتقم؟ هل عاد ليجد مكانه في قلب الساحة بعدما سكن على هوامشها لفترة طويلة؟ لعلّ هذه هي الحقيقة، وإن كانت مبرراته كلها وطنية وأخلاقية صرفة: أوقف شيرين عبد الوهاب عن الغناء لأنها أهانت النيل، وأوقف إيمان البحر درويش، وأوقف عشرات الفنانين، بعضهم لأسباب معلنة، وبعضهم لأسباب بقيت ضبابية. ثمّ جاءت حربه على مغنّي المهرجانات.
وجد صاحب "نسيانك صعب أكيد" لنفسه خصماً ظنّ أن إسقاطه سهل: واجه محمد رمضان، ثمّ حمو بيكا، ثم حسن شاكوش... وخسر كل معاركه. المواجهة التي اختارها أسقط عنها كل الصفات الفنية/النقابية، لتتحول إلى معركة طبقية صرفة. بدا النقيب مذهولاً وعاجزاً عن استيعاب صعود موسيقى المهرجانات السلم الاجتماعي خلال العقد الأخير، فأصرّ على حصرها في إطار معلّب، معيداً إنتاج الخطاب الشعبويّ نفسه: "هو كل واحد حبيبته مش هتسأل فيه المفروض يبقى ده الحل يروح يشرب خمور وحشيش". يقول كذلك: "نحن موجودون ولن نسمح بأي تطاول أو محاولة لتشويه الفن المصري"... تزخر المواقع الإلكترونية بتصريحات شبيهة لشاكر يتحسّر فيها تارة على الذوق العام، والتراث المصري الأصيل.
في مقابلة له مع التلفزيون السوري عام 1982 (كما يشير الفيديو على يوتيوب) مع المذيع مروان صواف، يهاجم أحمد عدوية، أب الأغنية الشعبية المصرية الحديثة، "لن يدخل المعهد العالي للموسيقى لو تقدّم". يقولها بضحكة متعالية وخبيثة. يكرّر مهاجمة ظاهرة عدوية قائلاً إن الجمهور ابتعد عنه "لأن القناع سقط، والناس بتفوق، وبتعرف إن مش هو ده الفن ولا هي دي الأصالة". يهزّ رأسه ويبتسم بخفّة.
في مقابلة أخرى، في تلك الفترة نفسها، يخبر المشاهدين بأن "الجمهور عنده وعي، وبيعرف مين يقدر يغني قدام الكاميرا مباشر ومين لأ".
جاءنا هاني شاكر من السبعينيات، ابن انتصار أكتوبر، وابن المرحلة التي تلتها. جاءنا بينما كانت أم كلثوم تبتعد عن الأضواء، وعبد الحليم حافظ نجماً مطلقاً على عرشه. تفاصيل كثيرة رافقت ظهوره: اكتشاف محمد الموجي له، تشابه صوته وصوت "العندليب الأسمر"، ثمّ رأي هذا الأخير بأدائه... كل ذلك لا يهمّ. ما يهمنا أن شاكر عبر معنا إلى الثمانينيات. تلك الفترة التي عاشت فيها الساحة الموسيقية المصرية، ضبابية في الهوية، فلا "الزمن الجميل" (مع اختلاف تقييم جماليّته) موجود، ولا زمن ما بعد الجميل قد اتضح. لكن خيار هاني شاكر كان واضحاً: هو (كما يظنّ نفسه) امتداد للكبار. امتداد لتلك الحقبة التي صنعت مجد مصر الغنائي في العالم العربي.
نجح راعي الأصالة في مسيرته مرات كثيرة، وفشل مرات كثيرة، لكنه فعل كل ذلك بأدب، وبحسب مقتضيات أي فنان يحمل رسالة. حزن بأدب، وغضب بأدب، وتعالت ضحكته وهلت في سماه، بأدب أيضاً. ومع تقدم السنوات، وظهور نجوم آخرين، أبرزهم محمد منير وعمرو دياب، ثمّ غزو حميد الشاعري للسوق الموسيقية في مصر، بتوزيعاته الجديدة، بدأ قذف هاني شاكر تدريجياً إلى الهامش منذ منتصف التسعينيات. وتكرّس مكانه على الهامش مطلع الألفية الجديدة مع توسّع أنماط موسيقية جديدة مثل الراب، والروك، والإلكترو شعبي، والمهرجانات... بقي الفنان المصري موجوداً على الساحة، لكن بصفته المعنوية والأبوية أكثر منها الفنية، حتى عام 2015.
في تلك السنة، سيصبح أمير الغناء نقيباً للموسيقيين، ملكاً بسلطة مطلقة في نقابة. سيخلع عنه تلك الابتسامة الوديعة، والصوت المرهف والمنمّق، ليصبح حاكماً بأمره على الساحة الموسيقية المصرية.
بدا هاني شاكر منذ وصوله إلى النقابة الرجل المناسب للمرحلة التي تعيشها مصر: هزيمة ثورة 25 يناير، ووصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، وتراكم المعتقلين في السجون. من غير هاني شاكر قادر على تلبية تطلعات تلك الفترة الفنية؟ الابن البارّ لحقبة محمد حسني مبارك، الذي وقف مع محمد ثروت على مركب في النيل ليغني "بلدي"، في محاولة لإعادة إنتاج نمط الأغاني الوطنية التي كرسها نظام جمال عبد الناصر؟
لم يخيّب شاكر الظنّ. حوّل النقابة، سريعاً، إلى جهاز ــ بعبع أمني، يلاحق الفنانين والآلاتية، ورقيباً على عروضهم، ليكشف عمّا إذا كانوا استخرجوا تصريحاً للغناء والعزف، أم لا. جهاز نقابي لتقاضي الرشوة، ولتأمين وصاية الدولة على الأخلاق العامة، وعلى ذوق المتلقي.
هل عاد هاني شاكر لينتقم؟ هل عاد ليجد مكانه في قلب الساحة بعدما سكن على هوامشها لفترة طويلة؟ لعلّ هذه هي الحقيقة، وإن كانت مبرراته كلها وطنية وأخلاقية صرفة: أوقف شيرين عبد الوهاب عن الغناء لأنها أهانت النيل، وأوقف إيمان البحر درويش، وأوقف عشرات الفنانين، بعضهم لأسباب معلنة، وبعضهم لأسباب بقيت ضبابية. ثمّ جاءت حربه على مغنّي المهرجانات.
وجد صاحب "نسيانك صعب أكيد" لنفسه خصماً ظنّ أن إسقاطه سهل: واجه محمد رمضان، ثمّ حمو بيكا، ثم حسن شاكوش... وخسر كل معاركه. المواجهة التي اختارها أسقط عنها كل الصفات الفنية/النقابية، لتتحول إلى معركة طبقية صرفة. بدا النقيب مذهولاً وعاجزاً عن استيعاب صعود موسيقى المهرجانات السلم الاجتماعي خلال العقد الأخير، فأصرّ على حصرها في إطار معلّب، معيداً إنتاج الخطاب الشعبويّ نفسه: "هو كل واحد حبيبته مش هتسأل فيه المفروض يبقى ده الحل يروح يشرب خمور وحشيش". يقول كذلك: "نحن موجودون ولن نسمح بأي تطاول أو محاولة لتشويه الفن المصري"... تزخر المواقع الإلكترونية بتصريحات شبيهة لشاكر يتحسّر فيها تارة على الذوق العام، والتراث المصري الأصيل.
لا يخرج هاني شاكر عن السياق المصريّ العام، خطابه القديم/الجديد امتداد لخطاب النظام القائم، الذي حاول منذ نهاية 2014، خلق هالة أخلاقية ترفرف فوق البلاد: من مداهمة الشرطة لحمامات قيل إن المثليين يستخدمونها، ثم إقفال مقاه بتهمة ممارسة عبادة الشيطان، ثمّ إيقاف حفلات غنائية، ثمّ إطلاق استراتيجية وطنية لمحاربة الإلحاد.
النظام الذي حوّل كل مواطن إلى مخبر (كما هي حال أغلب الأنظمة العربية) سلّم هاني شاكر بصفته النقابية، الضبطية القضائية، ليطلق الرجل العنان لخياله الانتقامي الجامح من كل ما لا تنطبق عليه صفة "الأصالة".
أصل المشكلة أن هاني شاكر نسخة رديئة من نقيب سابق هو حلمي بكر. غفير أخلاقي وطبقي على الموسيقى. نقيب يقيس الموسيقى بأصل الفنان وفصله. بنوعية جمهوره، وعائدات حفله. يقيسه برضا النظام عنه، ورضا المؤسسات الرسمية عن أدائه. هاني شاكر شاويش بصلاحيات قضائية، يقفل الدائرة على نفسه وعلى أصدقائه، فتطبق عليهم، بينما تتحوّل المهرجانات إلى جزء أساسي من إيقاع الحياة في مصر. قد لا يعجب هذا الكلام شاكر، لكن المهرجانات هي صوت مصر في آخر 7 سنوات. صوتها من الحارات الفقيرة صعوداً في الطبقات الاجتماعية إلى النوادي الليلية الراقية... لنا نحن "عايم في بحر الغدر شط الندالة مليان"، ولهاني شاكر ورعاة الفضيلة والذوق العام "فضلت ماشي عايم في بحرك الغريق في بحرك الغريق".