تغوص السورية سؤدد كعدان، في أول روائي طويل لها بعنوان "يوم أضعتُ ظلّي" ـ الفائز بـ"أسد المستقبل" في مسابقة "آفاق" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ في متاهات العيش اليومي في حربٍ سورية طاحنة، من دون الاقتراب منها، لشدّة انهماكها في متابعة أحوال 3 أفراد يلتقون صدفة ويبدأون معًا رحلة البحث عن خلاص أو منفذ.
أرادت سناء (سوسن أرشيد) تحضير طعام العشاء لابنها خليل (أحمد مرهف آل علي) في منزلها الدمشقي أثناء الحرب السورية تلك. لكن قارورة الغاز تنفد، فتُقرِّر شراء قارورة جديدة، من دون أن تتمكّن من تحقيق ذلك، لأن جنودًا سوريين يأخذون القوارير كلّها من المحلّ. تلتقي الشقيقين جلال (سامر إسماعيل) وريم (ريهام الكسار)، الباحثين هما أيضًا عن قارورة جديدة، فيقومون معًا في تجوال قاس وخطر يأخذهم في بعض جوانب بلدٍ ممزّق بالموت والدمار.
لعبة ظلال تجتهد سؤدد كعدان لتحقيقها في قلب نزاعات جمّة تعيشها الشخصيات الأساسية، وفي أعماق ذوات مهشّمة ومسحوقة، لكنها تعاند في مواجهة القدر والقتل والتغييب.
"العربي الجديد" التقت سؤدد كعدان في هذا الحوار:
(*) أمضيتِ أعوامًا عديدة قبل إنجازك "يوم أضعتُ ظلّي". ما الذي تغيَّر منذ بداية المشروع حتى الانتهاء من تنفيذه؟ ما الذي حصل؟
ـ لا يُمكن معرفة النتيجة النهائية للفيلم إلّا بعد الانتهاء من المونتاج كلّه. بدأت الكتابة بين عامي 2011 و2012 في دمشق. أول تمويل حصلت عليه كان من "صندوق سند لتمويل الأفلام" (مهرجان أبوظبي السينمائي) و"مؤسّسة الدوحة للأفلام". حينها، كنتُ ما أزال مُقيمة في سورية، قبل انتقالي لاحقًا إلى بيروت. البحث عن تمويل مُرهِقٌ، وهو محتاج إلى وقتٍ طويل. ذلك أن صعوبة تحقيق فيلمٍ كهذا كامنةٌ في الحصول على التمويل المطلوب.
المسألة الأخرى متعلّقة بكيفية بناء الفيلم على فكرة العلاقة بالظلال. أي أن هناك عنصرًا بصريًا لا ينتبه المشاهدون جميعهم إليه، وعليّ إيجاد وسيلة سينمائية لجعلهم ينتبهون. هذه المسألة تطلّبت مني اشتغالاً لمدة عام كامل، بحثت خلاله عن كيفية إظهار العلاقة بالظلال واختفائها، للمحافظة على التأثير بالمُشاهدين. هذا، بالنسبة إليّ، مهم للغاية.
التمويل أولاً، والانتقال من بلد إلى بلد، والبحث عن وسيلةٍ لإظهار ما أريد إظهاره، أمور حاصلة معي خلال تلك الفترة. ثم إن سينما مستقلّة كهذه محتاجة إلى بنية تحتية. عندما تنتقل من بلد إلى بلد تفقد أمورًا كثيرة، وتجد نفسك مضطرًّا لأن تبدأ عملك "من أول وجديد". لكن صعوبة الإنتاج مرتبطة بصعوبة إظهار البصريّ. وقتٌ طويلٌ أمضيته مع فريق عمل مختصّ بتصميم الصوت، كي أحصل على صوتٍ يُرافق الصورة.
أنا تغيّرت في 7 أعوام. كنتُ في سورية. طبيعة علاقتي بالموضوع. هذه أمور من بين أمور أخرى عديدة. منذ كتابتي الفيلم للمرة الأولى، اهتممت بالمونتاج لأنه جزءٌ من الكتابة. في اللحظات الأخيرة، حذفت من الحوار كلّ ما له علاقة بسورية. لم يعد يهمّني هذا الأمر كما في البداية. لم أعد أريد شيئًا مباشرًا، أو كلامًا في السياسة. ما يهمّني متعلّق بالكابوس الذي يعانيه من يَعيش حالة كهذه. حذفت الحوارات كلّها، بإيجابياتها وسلبياتها. نقّاد أجانب اعتبروه قويًا لأن لا حوار فيه يُسمّي الأشياء، بل لأنه يُعطي ما يُمكن اعتباره ملخّصًا، أو شيئًا مجرّدًا عن الموضوع.
اقــرأ أيضاً
(*) هذا واضحٌ. قلّة الكلام، وعندما يكون كلامٌ فهو أقرب إلى الواقع منه إلى تنظيرٍ أو مباشرةٍ.
ـ ما يهمني في "يوم أضعتُ ظلّي" ألا تصل الحكاية بالكلمة. لا حوارات تعبّر عن شيء أساسي. هذه حوارات لأناس لا يُحلّلون بل يقولون ويتصرّفون بشكل طبيعي. هناك ما يُشبه الانفصال أيضًا، أي أن تتحدّث سناء (سوسن أرشيد) مثلاً عن الطقس وهي تمسك بيديها جثة جلال (سامر إسماعيل). أن تكون الحوارات يومية لكنها صادمة. أن تكون مناقضة لما تريد الشخصية أن تقوله في لحظة ما.
طبعًا، هناك مدرسة في كتابة السيناريو تعتمد على الحوار. أفهم هذا. لكن هذا أيضًا خيار لي. لا حوارات كثيرة. كثيرون يتوقّعون من فيلم سوري أن يشرح ويفسّر، وأن يُلقي خطابات. بالنسبة إليّ، هذا كلّه غير مهمّ وغير ضروري البتّة. هذا كلّه معروف أصلاً. ما أردته كامنٌ في تخفيف الكلام لصالح الصورة والتعبير البصري، أي الكتابة بالتصوير. لذا، اشتغلتُ 8 أشهر لتحقيق أول مونتاج، كي أحذف جملاً أكثر لأني أرغب في إتاحة مجالٍ أكبر للصورة التي تُعبِّر، وكي تكون الجمل القليلة أقدر على البوح والتعبير.
(*) ذكرتِ قبل قليل سوسن أرشيد. أودّ التوقّف قليلاً عندها. رغم أني عارفٌ بأن اختيارها لتأدية دور البطولة خيار سينمائي خاص بك، إلّا أني لم أتمكّن من التفاعل معها كممثلة أولاً، وثانيًا كممثلة تعكس تلك الشخصية الأساسية والمحورية في الفيلم.
ـ البحث أساسي عن الممثلة الرئيسية، فهي الحالات كلّها في الفيلم الذي يُبنى عليها ويتقدّم بفضلها. هي تحمل الرحلة (التي تقوم بها سناء والشقيقان جلال وريم). الكاميرا تحاول أن تبقى مع الشخصية الأساسية. هذا فيلم ذاتي، وهي تحمل رأيي وتعيش شيئًا شخصيًا مني.
بداية، أنا سعيدة باختياري سوسن، لأن لديها ذاك الوجه الحيادي الذي يمكن ألّا يكشف أي انفعال إزاء صدمة ما. أثناء الحرب، هناك لحظات معينة لا تشعر فيها بأي حزن أو حِداد. عليك أن تعيش وأن تعود إلى عائلتك وأولادك. هذا أداء يقول إنّ الإنسان في الحرب غير قادر على تطوير أي علاقة له بأحاسيسه. لا وقت لهذا، ولا للمشاعر. الموت يومي، بل إنه يحدث كلّ لحظة. الأهم أن تعيش وأن تحصل على الأشياء البسيطة. أن تطبخ طعامًا لابنك مثلاً، فيكون همّك الوحيد هو هذا. اللبنانيون عاشوا الحرب وهم يعرفون أمورًا كهذه، لأن أشياء كثيرة تغيب أمام اهتماماتٍ أصغر وأقلّ أهمية.
وجه سوسن كان المعبِّر الحقيقي عمّا أريده. لا ممثلات في سورية أستطيع التعامل معهنّ في ظروف كهذه. سوسن موجودة في فرنسا. استطعت التعامل معها. الفيلم ليس سهلاً. لا بساطة للأشخاص مع الحدث السوري. هناك ألم. هناك مسافة فنية مع الواقع. تركَتْ ابنها كي تمثِّل. هذا مهم. في تلك الفترة، التقت ابنها مرة واحدة فقط في 8 أشهر عملٍ، رغم أن التصوير احتاج إلى 22 يومًا. هذا صعب بالنسبة إليها. هي أحبّت السيناريو ووافقت عليه.
ثم إني أردتُ أداءً يُحافظ على عفوية كاملة. هذا منطبقٌ على الممثلين جميعهم. لم أكن أخبرهم أين أضع الكاميرا، ولا متى نتوقّف عن التصوير. أردتُ معرفة مدى قدرتهم على الارتجال. أردتُ عفويتهم في أدائهم الشخصيات.
اقــرأ أيضاً
(*) إذًا، كيف تعاملت مع الممثلين؟ هل قرأوا السيناريو كلّه قبل التصوير مثلاً؟
ـ الممثلون الأساسيون قرأوا السيناريو كلّه. من تجاوز دوره 3 صفحات قرأ السيناريو كله أيضًا. مع الممثلين الآخرين، كانت تهمّني الحالة.
اختيار الممثل يأتي نتيجة الـ"كاستينغ" طبعًا. بعد الـ"كاستينغ"، أرسلت للممثل المختار مشهدًا واحدًا طويلاً كي أرى ما إذا كان قادرًا على حمله أم لا. بعد اعتمادي إياه، أرسلتُ له النص كاملاً. الاشتغال مع الممثلين الأساسيين دائمٌ وجماعي. لذا، تشعر أن هناك تواصلاً فعليًا بينهم. الممثلون الآخرون قادمون من مخيمات سورية في لبنان. هؤلاء غير محترفين.
لكوني مخرجة وثائقية، أعرف الناس الذين عاشوا معاناة. لا شيء أقوى من الوجه والملامح. الأهالي في العزاء والدفن هم أناس يُمثّلون للمرّة الأولى. كل واحد منهم كان يتذكّر ألمًا فيه، فيستمر بكاؤه إلى ما بعد الـCut. النجوم ساعدوا الآخرين لتبسيط المشهد واللقطة أمامهم، وساعدوهم أيضًا على التوقّف عند اللحظة المناسبة والمطلوبة. لم يتعاملوا معهم بمنطق النجومية.
كان الأمر صعبًا وضاغطًا. 22 يوم تصوير لفيلمٍ يحتاج إلى 30 أو 32 يومًا. الفترة التي صوّرت فيها كانت في الشتاء. كنا نعمل 10 ساعات يوميًا. حالة التأهب عالية. كان العمل مرهقًا فهو يمتدّ على 5 أو 6 أيام في الأسبوع. مع هذا، كان الأمر جميلاً.
(*) ما يلفت الانتباه أيضًا طريقة استعمالك الكاميرا وعلاقتها بالممثلين/ الشخصيات.
ـ منذ البداية أردتُ أن تكون الكاميرا "كلوز آب"، وأن تكون محمولة، وأن يكون الكادر ضيّقًا كي ترى القليل الذي حولك. ففي الحرب، لا ترى كلّ شيء. كأنك محصور. كأنك تتذكّر أمرًا ما فتشاهده في ذهنك من هذه الزاوية. كان مهمًّا لي أن تبقى الكاميرا مع الشخصيات من وجهة نظر ذاتية. التركيز على الصوت والوجه وحالة الفارين.
كمخرجة وثائقية، معتادةٌ أنا على كون الكاميرا ثابتة. لكن الخيار هنا روائيٌّ لا وثائقي، وهذا يتطلّب تعاملاً آخر مع الكاميرا، خصوصًا أن في الفيلم ما أعتبره "واقعية سحرية"، وهذه محتاجة إلى أسلوب آخر في العمل. هناك علاقة الشخصيات بالظلال، وهذا يعني وجود "واقعية سحرية" و"واقعية عادية" في الفيلم. أي أنّ هناك مقاربتين: كاميرا محمولة في التعامل مع نظرة الشخصيات أثناء الحرب. وهناك مقاربة الظلال واختفائها، وهذه محتاجة إلى طريقة أخرى في العمل. أي أن هناك حاجة إلى وسيلة ما للتعبير والتصوير.
لعبة الظلال، أي الواقعية السحرية، تحصل للمرة الأولى عند عبور النهر. لكن هذا ليس انتقالاً من الواقعية إلى الواقعية السحرية فقط، بل أيضًا انتقال الحرب من جهة إلى أخرى، من المدينة إلى الريف.
دعني أُبسِّط المسألة. هناك 3 أنواع من العبور. الأول هو عبور من الواقعية إلى الواقعية السحرية، وبدء ملاحظة الظلال واختفائها بعد عبور النهر، عندما تكتشف سناء، للمرة الأولى، أن لا ظلال. الثاني بصريّ: من كاميرا محمولة ومتحرّكة إلى أخرى ثابتة لتبيان الواقعية السحرية، والبدء بالتركيز على هذه المسألة. هناك أيضًا عبور ثالث: فللعبور من المدينة إلى الريف بُعدٌ ميتافيزيقي يعكس انتقالاً من حالة نفسية إلى أخرى.
(*) ماذا عن الموسيقى؟ رغم أنها قليلة، تمنّيتُ لو أنك لم تستخدمي الموسيقى في مشاهد ولقطات مُحمّلة بعمق درامي وجمالي يُمكنه أن يكون أقوى وأعمق من دون موسيقى.
ـ في كتابتي الأولى للفيلم، لم تكن هناك موسيقى. كنان العظمة قال لي إن الفيلم غير محتاج إلى الموسيقى، فأخبرته بحاجتي إلى أن أُظِهر للمُشاهد أين الواقعية وأين الواقعية السحرية. فادي باقي اشتغل على المؤثّرات الخاصّة.
كثيرون لم ينتبهوا إلى اختفاء الظلال. نقاد سينمائيون ومتذوّقون ومخرجون وأناسٌ عاديون شاهدوا الفيلم لم ينتبهوا إلى الظلال. هناك من اعتبر الظلال "تعبيرًا مجازيًا". لذا، كانت الطريقة الوحيدة للتنبيه إليها هي الموسيقى، التي تُنبِّه إلى اختفاء شيء في الصورة.
توماس روبير (مُوَلِّف ومهندس صوت)، العامل مرارًا مع السينمائيّ التركي نوري بيلغي جيلان، اشتغل على كيفية إيجاد صوتٍ لاختفاء صورة. هناك تمزّق الروح أيضًا. الصوت يذهب إليه. هناك حاجة إلى صوت لمساعدة المُشاهد على التنبّه إلى شيءٍ ما يحدث في الصورة والظلال. أجرينا محاولات تقنية وفنية مختلفة، لكنها لم تجعل المُشاهد ينتبه إلى الظلال، فكان الحل الوحيد الموسيقى.
استخدمتُ الموسيقى فقط لهذا السبب. مع التمزّق الروحي، استعان توماس روبير بصوت الـ"تشيلّو". أما الفانتازيا وعوالمها، فكانت الـ"كلارينيت" مع كنان العظمة. لكن، هناك لحظات قليلة اختفى الظلّ فيها من دون صوت: مشهد سناء في منزلها بعد عودتها إليه. ريم (ريهام الكسار) أثناء تحدّثها عن شقيقها جلال (سامر إسماعيل) في الغرفة.
اقــرأ أيضاً
(*) سؤال أخير: رغم تناولنا الجانب السينمائي واشتغالك الفني والتقني والجمالي، لم أسألك عن فكرة الظلال واختفائها. من أين أتتك؟ كيف انتبهتِ إليها أنتِ؟
ـ في سورية، كان لديّ شعور أني لن أتمكّن من صنع أفلام كمخرجة وثائقية. كان لديّ اقتناع بأنّ الصورة لن تعبّر عن الواقع. هذا ليس تفلسفًا. كيف يُمكن لكاميرتي أن تُصوّر هذه الأشياء؟ كنتُ أتساءل: هل تقدر السينما أن تعبّر عن الحرب؟ شاهدتُ أفلامًا كثيرة عن الحروب والصدمات. بشاعة الحرب أكبر من صورة. ثم شاهدتُ "هيروشيما حبّي" (1959) لآلان رينيه.
هيروشيما مدخلي إلى الظلال والموت. هناك قنبلة نووية هدمت المدينة، وأحرقت الناس وظلالهم. هناك صُورٌ بالأسود والأبيض تعكس أمورًا كهذه. أناسٌ يبكون. أناسٌ يختفون لكن ظلالهم تبقى بعد اختفائهم. القنبلة ضوئية، أخفت الناس وأبقت على ظلالهم. كلّ عام، يرسم البعض تلك الظلال لتذكّر الناس الذين اختفوا.
معي، انقلب الموضوع، فنحن هنا على عكس ذلك. عندما تموت، ينتهي الألم. وعندما تكون حيّاً لا تستطيع تغيير شيء في الحرب. هكذا شعرتُ. هذه الصُور في هيروشيما أوصلتني إلى الحالة العاطفية التي أعبّر عنها. ربما ليس الأمر منطقيًا، لكن الناس هنا يعيشون من دون ظلال.
ـ لا يُمكن معرفة النتيجة النهائية للفيلم إلّا بعد الانتهاء من المونتاج كلّه. بدأت الكتابة بين عامي 2011 و2012 في دمشق. أول تمويل حصلت عليه كان من "صندوق سند لتمويل الأفلام" (مهرجان أبوظبي السينمائي) و"مؤسّسة الدوحة للأفلام". حينها، كنتُ ما أزال مُقيمة في سورية، قبل انتقالي لاحقًا إلى بيروت. البحث عن تمويل مُرهِقٌ، وهو محتاج إلى وقتٍ طويل. ذلك أن صعوبة تحقيق فيلمٍ كهذا كامنةٌ في الحصول على التمويل المطلوب.
المسألة الأخرى متعلّقة بكيفية بناء الفيلم على فكرة العلاقة بالظلال. أي أن هناك عنصرًا بصريًا لا ينتبه المشاهدون جميعهم إليه، وعليّ إيجاد وسيلة سينمائية لجعلهم ينتبهون. هذه المسألة تطلّبت مني اشتغالاً لمدة عام كامل، بحثت خلاله عن كيفية إظهار العلاقة بالظلال واختفائها، للمحافظة على التأثير بالمُشاهدين. هذا، بالنسبة إليّ، مهم للغاية.
التمويل أولاً، والانتقال من بلد إلى بلد، والبحث عن وسيلةٍ لإظهار ما أريد إظهاره، أمور حاصلة معي خلال تلك الفترة. ثم إن سينما مستقلّة كهذه محتاجة إلى بنية تحتية. عندما تنتقل من بلد إلى بلد تفقد أمورًا كثيرة، وتجد نفسك مضطرًّا لأن تبدأ عملك "من أول وجديد". لكن صعوبة الإنتاج مرتبطة بصعوبة إظهار البصريّ. وقتٌ طويلٌ أمضيته مع فريق عمل مختصّ بتصميم الصوت، كي أحصل على صوتٍ يُرافق الصورة.
أنا تغيّرت في 7 أعوام. كنتُ في سورية. طبيعة علاقتي بالموضوع. هذه أمور من بين أمور أخرى عديدة. منذ كتابتي الفيلم للمرة الأولى، اهتممت بالمونتاج لأنه جزءٌ من الكتابة. في اللحظات الأخيرة، حذفت من الحوار كلّ ما له علاقة بسورية. لم يعد يهمّني هذا الأمر كما في البداية. لم أعد أريد شيئًا مباشرًا، أو كلامًا في السياسة. ما يهمّني متعلّق بالكابوس الذي يعانيه من يَعيش حالة كهذه. حذفت الحوارات كلّها، بإيجابياتها وسلبياتها. نقّاد أجانب اعتبروه قويًا لأن لا حوار فيه يُسمّي الأشياء، بل لأنه يُعطي ما يُمكن اعتباره ملخّصًا، أو شيئًا مجرّدًا عن الموضوع.
(*) هذا واضحٌ. قلّة الكلام، وعندما يكون كلامٌ فهو أقرب إلى الواقع منه إلى تنظيرٍ أو مباشرةٍ.
ـ ما يهمني في "يوم أضعتُ ظلّي" ألا تصل الحكاية بالكلمة. لا حوارات تعبّر عن شيء أساسي. هذه حوارات لأناس لا يُحلّلون بل يقولون ويتصرّفون بشكل طبيعي. هناك ما يُشبه الانفصال أيضًا، أي أن تتحدّث سناء (سوسن أرشيد) مثلاً عن الطقس وهي تمسك بيديها جثة جلال (سامر إسماعيل). أن تكون الحوارات يومية لكنها صادمة. أن تكون مناقضة لما تريد الشخصية أن تقوله في لحظة ما.
طبعًا، هناك مدرسة في كتابة السيناريو تعتمد على الحوار. أفهم هذا. لكن هذا أيضًا خيار لي. لا حوارات كثيرة. كثيرون يتوقّعون من فيلم سوري أن يشرح ويفسّر، وأن يُلقي خطابات. بالنسبة إليّ، هذا كلّه غير مهمّ وغير ضروري البتّة. هذا كلّه معروف أصلاً. ما أردته كامنٌ في تخفيف الكلام لصالح الصورة والتعبير البصري، أي الكتابة بالتصوير. لذا، اشتغلتُ 8 أشهر لتحقيق أول مونتاج، كي أحذف جملاً أكثر لأني أرغب في إتاحة مجالٍ أكبر للصورة التي تُعبِّر، وكي تكون الجمل القليلة أقدر على البوح والتعبير.
(*) ذكرتِ قبل قليل سوسن أرشيد. أودّ التوقّف قليلاً عندها. رغم أني عارفٌ بأن اختيارها لتأدية دور البطولة خيار سينمائي خاص بك، إلّا أني لم أتمكّن من التفاعل معها كممثلة أولاً، وثانيًا كممثلة تعكس تلك الشخصية الأساسية والمحورية في الفيلم.
ـ البحث أساسي عن الممثلة الرئيسية، فهي الحالات كلّها في الفيلم الذي يُبنى عليها ويتقدّم بفضلها. هي تحمل الرحلة (التي تقوم بها سناء والشقيقان جلال وريم). الكاميرا تحاول أن تبقى مع الشخصية الأساسية. هذا فيلم ذاتي، وهي تحمل رأيي وتعيش شيئًا شخصيًا مني.
بداية، أنا سعيدة باختياري سوسن، لأن لديها ذاك الوجه الحيادي الذي يمكن ألّا يكشف أي انفعال إزاء صدمة ما. أثناء الحرب، هناك لحظات معينة لا تشعر فيها بأي حزن أو حِداد. عليك أن تعيش وأن تعود إلى عائلتك وأولادك. هذا أداء يقول إنّ الإنسان في الحرب غير قادر على تطوير أي علاقة له بأحاسيسه. لا وقت لهذا، ولا للمشاعر. الموت يومي، بل إنه يحدث كلّ لحظة. الأهم أن تعيش وأن تحصل على الأشياء البسيطة. أن تطبخ طعامًا لابنك مثلاً، فيكون همّك الوحيد هو هذا. اللبنانيون عاشوا الحرب وهم يعرفون أمورًا كهذه، لأن أشياء كثيرة تغيب أمام اهتماماتٍ أصغر وأقلّ أهمية.
وجه سوسن كان المعبِّر الحقيقي عمّا أريده. لا ممثلات في سورية أستطيع التعامل معهنّ في ظروف كهذه. سوسن موجودة في فرنسا. استطعت التعامل معها. الفيلم ليس سهلاً. لا بساطة للأشخاص مع الحدث السوري. هناك ألم. هناك مسافة فنية مع الواقع. تركَتْ ابنها كي تمثِّل. هذا مهم. في تلك الفترة، التقت ابنها مرة واحدة فقط في 8 أشهر عملٍ، رغم أن التصوير احتاج إلى 22 يومًا. هذا صعب بالنسبة إليها. هي أحبّت السيناريو ووافقت عليه.
ثم إني أردتُ أداءً يُحافظ على عفوية كاملة. هذا منطبقٌ على الممثلين جميعهم. لم أكن أخبرهم أين أضع الكاميرا، ولا متى نتوقّف عن التصوير. أردتُ معرفة مدى قدرتهم على الارتجال. أردتُ عفويتهم في أدائهم الشخصيات.
(*) إذًا، كيف تعاملت مع الممثلين؟ هل قرأوا السيناريو كلّه قبل التصوير مثلاً؟
ـ الممثلون الأساسيون قرأوا السيناريو كلّه. من تجاوز دوره 3 صفحات قرأ السيناريو كله أيضًا. مع الممثلين الآخرين، كانت تهمّني الحالة.
اختيار الممثل يأتي نتيجة الـ"كاستينغ" طبعًا. بعد الـ"كاستينغ"، أرسلت للممثل المختار مشهدًا واحدًا طويلاً كي أرى ما إذا كان قادرًا على حمله أم لا. بعد اعتمادي إياه، أرسلتُ له النص كاملاً. الاشتغال مع الممثلين الأساسيين دائمٌ وجماعي. لذا، تشعر أن هناك تواصلاً فعليًا بينهم. الممثلون الآخرون قادمون من مخيمات سورية في لبنان. هؤلاء غير محترفين.
لكوني مخرجة وثائقية، أعرف الناس الذين عاشوا معاناة. لا شيء أقوى من الوجه والملامح. الأهالي في العزاء والدفن هم أناس يُمثّلون للمرّة الأولى. كل واحد منهم كان يتذكّر ألمًا فيه، فيستمر بكاؤه إلى ما بعد الـCut. النجوم ساعدوا الآخرين لتبسيط المشهد واللقطة أمامهم، وساعدوهم أيضًا على التوقّف عند اللحظة المناسبة والمطلوبة. لم يتعاملوا معهم بمنطق النجومية.
كان الأمر صعبًا وضاغطًا. 22 يوم تصوير لفيلمٍ يحتاج إلى 30 أو 32 يومًا. الفترة التي صوّرت فيها كانت في الشتاء. كنا نعمل 10 ساعات يوميًا. حالة التأهب عالية. كان العمل مرهقًا فهو يمتدّ على 5 أو 6 أيام في الأسبوع. مع هذا، كان الأمر جميلاً.
(*) ما يلفت الانتباه أيضًا طريقة استعمالك الكاميرا وعلاقتها بالممثلين/ الشخصيات.
ـ منذ البداية أردتُ أن تكون الكاميرا "كلوز آب"، وأن تكون محمولة، وأن يكون الكادر ضيّقًا كي ترى القليل الذي حولك. ففي الحرب، لا ترى كلّ شيء. كأنك محصور. كأنك تتذكّر أمرًا ما فتشاهده في ذهنك من هذه الزاوية. كان مهمًّا لي أن تبقى الكاميرا مع الشخصيات من وجهة نظر ذاتية. التركيز على الصوت والوجه وحالة الفارين.
كمخرجة وثائقية، معتادةٌ أنا على كون الكاميرا ثابتة. لكن الخيار هنا روائيٌّ لا وثائقي، وهذا يتطلّب تعاملاً آخر مع الكاميرا، خصوصًا أن في الفيلم ما أعتبره "واقعية سحرية"، وهذه محتاجة إلى أسلوب آخر في العمل. هناك علاقة الشخصيات بالظلال، وهذا يعني وجود "واقعية سحرية" و"واقعية عادية" في الفيلم. أي أنّ هناك مقاربتين: كاميرا محمولة في التعامل مع نظرة الشخصيات أثناء الحرب. وهناك مقاربة الظلال واختفائها، وهذه محتاجة إلى طريقة أخرى في العمل. أي أن هناك حاجة إلى وسيلة ما للتعبير والتصوير.
لعبة الظلال، أي الواقعية السحرية، تحصل للمرة الأولى عند عبور النهر. لكن هذا ليس انتقالاً من الواقعية إلى الواقعية السحرية فقط، بل أيضًا انتقال الحرب من جهة إلى أخرى، من المدينة إلى الريف.
دعني أُبسِّط المسألة. هناك 3 أنواع من العبور. الأول هو عبور من الواقعية إلى الواقعية السحرية، وبدء ملاحظة الظلال واختفائها بعد عبور النهر، عندما تكتشف سناء، للمرة الأولى، أن لا ظلال. الثاني بصريّ: من كاميرا محمولة ومتحرّكة إلى أخرى ثابتة لتبيان الواقعية السحرية، والبدء بالتركيز على هذه المسألة. هناك أيضًا عبور ثالث: فللعبور من المدينة إلى الريف بُعدٌ ميتافيزيقي يعكس انتقالاً من حالة نفسية إلى أخرى.
(*) ماذا عن الموسيقى؟ رغم أنها قليلة، تمنّيتُ لو أنك لم تستخدمي الموسيقى في مشاهد ولقطات مُحمّلة بعمق درامي وجمالي يُمكنه أن يكون أقوى وأعمق من دون موسيقى.
ـ في كتابتي الأولى للفيلم، لم تكن هناك موسيقى. كنان العظمة قال لي إن الفيلم غير محتاج إلى الموسيقى، فأخبرته بحاجتي إلى أن أُظِهر للمُشاهد أين الواقعية وأين الواقعية السحرية. فادي باقي اشتغل على المؤثّرات الخاصّة.
كثيرون لم ينتبهوا إلى اختفاء الظلال. نقاد سينمائيون ومتذوّقون ومخرجون وأناسٌ عاديون شاهدوا الفيلم لم ينتبهوا إلى الظلال. هناك من اعتبر الظلال "تعبيرًا مجازيًا". لذا، كانت الطريقة الوحيدة للتنبيه إليها هي الموسيقى، التي تُنبِّه إلى اختفاء شيء في الصورة.
توماس روبير (مُوَلِّف ومهندس صوت)، العامل مرارًا مع السينمائيّ التركي نوري بيلغي جيلان، اشتغل على كيفية إيجاد صوتٍ لاختفاء صورة. هناك تمزّق الروح أيضًا. الصوت يذهب إليه. هناك حاجة إلى صوت لمساعدة المُشاهد على التنبّه إلى شيءٍ ما يحدث في الصورة والظلال. أجرينا محاولات تقنية وفنية مختلفة، لكنها لم تجعل المُشاهد ينتبه إلى الظلال، فكان الحل الوحيد الموسيقى.
استخدمتُ الموسيقى فقط لهذا السبب. مع التمزّق الروحي، استعان توماس روبير بصوت الـ"تشيلّو". أما الفانتازيا وعوالمها، فكانت الـ"كلارينيت" مع كنان العظمة. لكن، هناك لحظات قليلة اختفى الظلّ فيها من دون صوت: مشهد سناء في منزلها بعد عودتها إليه. ريم (ريهام الكسار) أثناء تحدّثها عن شقيقها جلال (سامر إسماعيل) في الغرفة.
(*) سؤال أخير: رغم تناولنا الجانب السينمائي واشتغالك الفني والتقني والجمالي، لم أسألك عن فكرة الظلال واختفائها. من أين أتتك؟ كيف انتبهتِ إليها أنتِ؟
ـ في سورية، كان لديّ شعور أني لن أتمكّن من صنع أفلام كمخرجة وثائقية. كان لديّ اقتناع بأنّ الصورة لن تعبّر عن الواقع. هذا ليس تفلسفًا. كيف يُمكن لكاميرتي أن تُصوّر هذه الأشياء؟ كنتُ أتساءل: هل تقدر السينما أن تعبّر عن الحرب؟ شاهدتُ أفلامًا كثيرة عن الحروب والصدمات. بشاعة الحرب أكبر من صورة. ثم شاهدتُ "هيروشيما حبّي" (1959) لآلان رينيه.
هيروشيما مدخلي إلى الظلال والموت. هناك قنبلة نووية هدمت المدينة، وأحرقت الناس وظلالهم. هناك صُورٌ بالأسود والأبيض تعكس أمورًا كهذه. أناسٌ يبكون. أناسٌ يختفون لكن ظلالهم تبقى بعد اختفائهم. القنبلة ضوئية، أخفت الناس وأبقت على ظلالهم. كلّ عام، يرسم البعض تلك الظلال لتذكّر الناس الذين اختفوا.
معي، انقلب الموضوع، فنحن هنا على عكس ذلك. عندما تموت، ينتهي الألم. وعندما تكون حيّاً لا تستطيع تغيير شيء في الحرب. هكذا شعرتُ. هذه الصُور في هيروشيما أوصلتني إلى الحالة العاطفية التي أعبّر عنها. ربما ليس الأمر منطقيًا، لكن الناس هنا يعيشون من دون ظلال.