"فلأتخيل، واضعاً نفسي في محلّه". بتلك المقاربة، كتب بيل ويذرز (1938 - 2020)، الذي رحل في الـ30 من مارس/آذار هذا العام، أغنيته "لا أحسن الكتابة باليد اليسرى"، التي تناول من خلالها قصة أحد الجنود العائدين من حرب فيتنام وقد بُترت ذراعه اليمنى إثر القتال. في تلك المقاربة الإنسانية المباشرة والبسيطة في الكتابة والتلحين، يكمن جوهر ما ميّز ذلك العلم الموسيقي عن باقي أعلام البوب عموماً والسول تحديداً، ممن سبقه، ومن عاصره، ومن جاء من بعده؛ فهو لم يقترب قط من الناس، ولم يسع يوماً إلى التقرّب منهم، وإنما كان واحداً منهم.
المولود في مُجتمع عمال مناجمٍ للفحم في جنوب ولاية فرجينيا الأميركية، لم يرَ نفسه يوماً نجماً. ولم يُبد أبداً أي عزمٍ أو إصرارٍ على شق طريقه نحو الشهرة. كان قد بلغ الثلاثين من العمر، ولم يبدأ بعد بتسجيل الأغاني، التي ستتصدر في المستقبل القريب مرحلة إبداع حيوية إبان سبعينيّات القرن الماضي أنتجت الأسطورة ستيفي وندرز وغيره من مُغنّي موسيقى البلوز من ذوي البشرة السوداء. لم تكن الموسيقى محور حياته، ومن صلب طموحه؛ إذ التحق في بادئ الأمر بقوات البحرية الأميركية منتصف الخمسينيات، تدرب هناك في ميكانيك المقاتلات الجوية، ثم عمل في مصنع قطع للطائرات. ومن مال ما جمع وادخر، اقتنى آلة غيتار، فآلة بيانو، ومن دون معلم، تعلم العزف عليهما، والتلحين بهما، ثم بدأ باستثمار القليل من الوقت والمال في تنفيذ بعض التسجيلات الدعائية البسيطة والأولية.
"الإنسان العادي"، كما كان يحلو له دوماً أن يصف نفسه، مثّل مع غيره من الموسيقيين جيل الشباب الأفرو- أميركيين المنبثقين من بوتقة الحراك الشعبي خلال مرحلة الستينيّات، حين رُفع شعار المساواة التامة بين السود الأميركيين ومواطنيهم من البيض. ما عُرف منذئذ بـ "حركة الحقوق المدنية"، لم يكن مجرد نضالٍ سياسيٍ وقانونيٍ وحسب، بل كان أيضاً تفجّر وعيّ بالذات الأفرو- أميركية وتلمّس مكوّناتها الثقافية. الترتيل الكنسي (الغوسبل)، الذي تُرجم عَلمانياً عبر موسيقى السول، وشكّل تربة ويذرز الفنية، كان أحد الروافع السمعية لتلك المكوّنات.
ضمن هكذا سياق سياسي - ثقافي، تُمكن قراءة أغنية "يدا جدّتي".. "إن صعدتُّ إلى الجنة"، يقول ويذرز، "فأول ما سأبحث عنه هو يدي جدتي". ذلك العَود بالنسبة إلى الأميركي الأسود يتجاوز الديني إلى الثقافي. فالجدّة، هي رمز الجذور المُمتدة حتى القارة السوداء، والكنيسة الأفرو- إنجيلية هي تلك الآنية الروحية التي تحفظ تلك الجذور. في معرض الأغنية يقول: "الجدة تفهم يا عزيزي، أنك بالفعل تُحب ذاك الرجل (المسيح)، فلتضع نفسك بين يدي يسوع". وإذا بيديّ الجدة تتماهيان بيديّ المسيح، كأن مُعتقد الصلة بالأجداد عند الشعوب الأفريقية يتّحد ثقافياً بالعقيدة المسيحية.
صاحب جوائز غرامي الثلاث، وضمن مراسم تبوّئه ركناً في قاعة الشهرة عام 2015، كان قد ألقى خُطبة قبول شكر فيها ستيفي وندر، حيث قال: "أن يقدّمني ستيفي وندر لأتقلّد ركناً في قاعة الشهرة، بالنسبة إلي، كأن يفتح أسدٌ البوابة ليعبر منها هرٌّ صغير". اللافت أن ويذرز حين يتكلم لا يبدو كمن يصطنع التواضع، وذلك في وسط فنّي لطالما حكمته لياقات العلاقات العامة، وآداب التزلّف والتملق. هو متواضع بالفعل، بالجوهر وبالفطرة، بالنشأة الاجتماعية وبالمسيرة المهنية. يكمل خطبته، أمام موجٍ من النجوم يملأ الصالة، وكأنه في مقهى يتسامر هو وثلة من الأصدقاء القدامى. باقتضاب يروي من حكايته، ومن دون كبير اكتراث بما حققه وأنجزه، فتتناهى قصته ملحمة بطولية حين يخطّها أناس عاديون، كادحون، هامشيون، وفي عالم الأغلبية الساحقة من بني البشر، أبطالٌ حقيقيون.
من ذات معين الدفق الإنساني الصادق وغير المُدّعي، يأتي صوته قوياً دونما شدة بأس، قادراً دونما تبجّح، ونافذاً من دون تنفّذ. أغنية "اتّكئ عليّ" التي تحتفي بأواصر الصداقة ومشاعر التضامن بين البشر، وإن أتت بمسحة ترتيل كنسية تُعيدها إلى جذور موسيقى السول الأولية، إلا أنها وفي الوقت نفسه، ذات تصميم بسيط يكاد أن يكون تلقائيا؛ كأن به، هو وأعضاء فرقته، يتحلقون حول نار متّقدة، بعد يومٍ طويل من عمل شاق مُضن في أحد الحقول، أو أحد المناجم، ينشدون سوية: "اتّكئ عليّ، حين لا تشعر بالقوة، سأكون لك صديقاً، سأساعدك في أن تمضي قدماً، ولن يمضي وقتٌ طويلٌ، حتى أمسي أنا بحاجة إلى من أتّكئ عليه".
من الطبيعي، إذن، أن تخوض شخصية كتلك غمار علاقة إشكالية مع إمبراطوريات الصناعة الموسيقية. لم ير يوماً، وهو الذي بدأ مشواره الفني من غير كثير اكتراث، أي داعٍ لأن يذعن لمؤسسات ربحية حاولت طوال عقود تأطير الموسيقى الأميركية السوداء ضمن تنميطات محددة في الشكل والمضمون، لا تُحركها إلا رياح السوق وتموجات المزاج العام، ولا تُغيرها إلا معادلات العرض والطلب. الأمر الذي حدا به إلى أن يهجر السوق الفنية، بما فيها شركة كولومبيا العملاقة، فيما لم تزل تحتفل بحصول أغنيته "كلانا فقط" على جائزة غرامي عام 1980. ولم يعد إلى إصدار أي من الألبومات منذ ذلك الوقت. هو الذي لم يأبه قط، ولم ينظر إلى إنتاجه الفني سوى لكونه أمراً طارئاً وحدثاً وجودياً عارضاً، ومجرد محطة من عديد محطات الحياة.
اقــرأ أيضاً
تعد "عندما ترحل هي، لا تعود تشرق الشمس" إحدى أشهر أغنياته، حيث صُنّفت بحسب مجلة "رولينغ ستونز"، ضمن إحدى أعظم خمسمئة أغنية في التاريخ. حين كتبها كان لا يزال في أوائل الثلاثين من عمره، يعمل في تجهيز الطائرات بالمراحيض. تعد الأغنية نموذجاً لما سيُعرف بجنس ال R&B (إيقاع وبلوز) وتُجسّد مناخات الوحدة والسوداوية التي غالباً ما رسمت أجواء تلك الأغاني، مناخات، ارتبطت بهوية بل ويذرز الموسيقية. ولئن تميّزت سيرورة حياته الخاصة، في المقابل، بالدعة والبساطة، أو بـ "العملية" كما كان يصفها هو، فإن كلاً من مسحة العزلة والحزن التي كانت للبلوز، قد لعبت لديه بالأحرى دور العطف والمواساة، وعمق الإحساس بمعاناة الآخرين.
المولود في مُجتمع عمال مناجمٍ للفحم في جنوب ولاية فرجينيا الأميركية، لم يرَ نفسه يوماً نجماً. ولم يُبد أبداً أي عزمٍ أو إصرارٍ على شق طريقه نحو الشهرة. كان قد بلغ الثلاثين من العمر، ولم يبدأ بعد بتسجيل الأغاني، التي ستتصدر في المستقبل القريب مرحلة إبداع حيوية إبان سبعينيّات القرن الماضي أنتجت الأسطورة ستيفي وندرز وغيره من مُغنّي موسيقى البلوز من ذوي البشرة السوداء. لم تكن الموسيقى محور حياته، ومن صلب طموحه؛ إذ التحق في بادئ الأمر بقوات البحرية الأميركية منتصف الخمسينيات، تدرب هناك في ميكانيك المقاتلات الجوية، ثم عمل في مصنع قطع للطائرات. ومن مال ما جمع وادخر، اقتنى آلة غيتار، فآلة بيانو، ومن دون معلم، تعلم العزف عليهما، والتلحين بهما، ثم بدأ باستثمار القليل من الوقت والمال في تنفيذ بعض التسجيلات الدعائية البسيطة والأولية.
"الإنسان العادي"، كما كان يحلو له دوماً أن يصف نفسه، مثّل مع غيره من الموسيقيين جيل الشباب الأفرو- أميركيين المنبثقين من بوتقة الحراك الشعبي خلال مرحلة الستينيّات، حين رُفع شعار المساواة التامة بين السود الأميركيين ومواطنيهم من البيض. ما عُرف منذئذ بـ "حركة الحقوق المدنية"، لم يكن مجرد نضالٍ سياسيٍ وقانونيٍ وحسب، بل كان أيضاً تفجّر وعيّ بالذات الأفرو- أميركية وتلمّس مكوّناتها الثقافية. الترتيل الكنسي (الغوسبل)، الذي تُرجم عَلمانياً عبر موسيقى السول، وشكّل تربة ويذرز الفنية، كان أحد الروافع السمعية لتلك المكوّنات.
ضمن هكذا سياق سياسي - ثقافي، تُمكن قراءة أغنية "يدا جدّتي".. "إن صعدتُّ إلى الجنة"، يقول ويذرز، "فأول ما سأبحث عنه هو يدي جدتي". ذلك العَود بالنسبة إلى الأميركي الأسود يتجاوز الديني إلى الثقافي. فالجدّة، هي رمز الجذور المُمتدة حتى القارة السوداء، والكنيسة الأفرو- إنجيلية هي تلك الآنية الروحية التي تحفظ تلك الجذور. في معرض الأغنية يقول: "الجدة تفهم يا عزيزي، أنك بالفعل تُحب ذاك الرجل (المسيح)، فلتضع نفسك بين يدي يسوع". وإذا بيديّ الجدة تتماهيان بيديّ المسيح، كأن مُعتقد الصلة بالأجداد عند الشعوب الأفريقية يتّحد ثقافياً بالعقيدة المسيحية.
صاحب جوائز غرامي الثلاث، وضمن مراسم تبوّئه ركناً في قاعة الشهرة عام 2015، كان قد ألقى خُطبة قبول شكر فيها ستيفي وندر، حيث قال: "أن يقدّمني ستيفي وندر لأتقلّد ركناً في قاعة الشهرة، بالنسبة إلي، كأن يفتح أسدٌ البوابة ليعبر منها هرٌّ صغير". اللافت أن ويذرز حين يتكلم لا يبدو كمن يصطنع التواضع، وذلك في وسط فنّي لطالما حكمته لياقات العلاقات العامة، وآداب التزلّف والتملق. هو متواضع بالفعل، بالجوهر وبالفطرة، بالنشأة الاجتماعية وبالمسيرة المهنية. يكمل خطبته، أمام موجٍ من النجوم يملأ الصالة، وكأنه في مقهى يتسامر هو وثلة من الأصدقاء القدامى. باقتضاب يروي من حكايته، ومن دون كبير اكتراث بما حققه وأنجزه، فتتناهى قصته ملحمة بطولية حين يخطّها أناس عاديون، كادحون، هامشيون، وفي عالم الأغلبية الساحقة من بني البشر، أبطالٌ حقيقيون.
من ذات معين الدفق الإنساني الصادق وغير المُدّعي، يأتي صوته قوياً دونما شدة بأس، قادراً دونما تبجّح، ونافذاً من دون تنفّذ. أغنية "اتّكئ عليّ" التي تحتفي بأواصر الصداقة ومشاعر التضامن بين البشر، وإن أتت بمسحة ترتيل كنسية تُعيدها إلى جذور موسيقى السول الأولية، إلا أنها وفي الوقت نفسه، ذات تصميم بسيط يكاد أن يكون تلقائيا؛ كأن به، هو وأعضاء فرقته، يتحلقون حول نار متّقدة، بعد يومٍ طويل من عمل شاق مُضن في أحد الحقول، أو أحد المناجم، ينشدون سوية: "اتّكئ عليّ، حين لا تشعر بالقوة، سأكون لك صديقاً، سأساعدك في أن تمضي قدماً، ولن يمضي وقتٌ طويلٌ، حتى أمسي أنا بحاجة إلى من أتّكئ عليه".
من الطبيعي، إذن، أن تخوض شخصية كتلك غمار علاقة إشكالية مع إمبراطوريات الصناعة الموسيقية. لم ير يوماً، وهو الذي بدأ مشواره الفني من غير كثير اكتراث، أي داعٍ لأن يذعن لمؤسسات ربحية حاولت طوال عقود تأطير الموسيقى الأميركية السوداء ضمن تنميطات محددة في الشكل والمضمون، لا تُحركها إلا رياح السوق وتموجات المزاج العام، ولا تُغيرها إلا معادلات العرض والطلب. الأمر الذي حدا به إلى أن يهجر السوق الفنية، بما فيها شركة كولومبيا العملاقة، فيما لم تزل تحتفل بحصول أغنيته "كلانا فقط" على جائزة غرامي عام 1980. ولم يعد إلى إصدار أي من الألبومات منذ ذلك الوقت. هو الذي لم يأبه قط، ولم ينظر إلى إنتاجه الفني سوى لكونه أمراً طارئاً وحدثاً وجودياً عارضاً، ومجرد محطة من عديد محطات الحياة.