إيطاليا بعينيّ لازارو: حاضرٌ أفدح من الماضي

29 اغسطس 2018
أليس رورفاخر: جماليات سينما عريقة (فيسبوك)
+ الخط -
لا يُمكن للقراءة النقدية لـ"لازارو السعيد"، كما عنوان الروائي الثالث للمخرجة الإيطالية أليس رورفاخر (1981)، تجاوز السيناريو، أو التغاضي عنه. هذا غير عائد إلى فوزه بجائزة أفضل سيناريو (مناصفة مع "3 وجوه" للإيراني جعفر بناهي) في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي، بل لكونه متين الصُنعة وشديد البساطة، ولطرحه أسئلة متعدّدة ومتشعّبة. فهو قَلَب المفهوم المنطقي للسير "المعتاد" للسيناريو، عبر خلخلة البنية الزمنية والمكانية للأحداث، وهذه من أبرز نقاط قوّته. 

لكن جودة الفيلم غير قائمة فقط على السيناريو، الذي كتبته رورفاخر نفسها، بل أيضًا على قوامه وشكله المترابطين ـ بصريًا وفنيًا وجماليًا وأدائيًا ـ أحدهما مع الآخر. فالفيلم، عامة، يستمد تميّزه من أكثر من مستوى، يُمَكِّن المتلقّي من التفاعل معه ومع شخصياته وقصّته، والاستمتاع به فنيًا وبصريًا، وربما فلسفيًا أيضًا. لكن المشكلة أن كثيرين سيعجزون عن فهم منطقه وبنية السيناريو الخاص به، لا سيما أنها (البنية) سائرة على نحو مُخادع، بوتيرة شديدة السهولة والسلاسة، وغارقة في الكلاسيكية حتى منتصف الفيلم.

العين الخبيرة بالسينما الإيطالية تُدرك جيّدًا، عند مُشاهدتها "لازارو السعيد"، أنه يجمع بين جماليات فنية خالصة ومميزة فيها، خصوصًا في مرحلتها الواقعية: اختيار بيئة مرتبطة بالفلاّحين والمُزارعين وفقرهم وجهلهم، وإقطاعية تتحكم بهم كأنهم "عبيد"، والظروف المعيشية البائسة التي تطحنهم، والبيئة المُتخلفة التي تحيط بهم، ومحاولتهم العيش والتأقلم معها، وحتى الشعور بالسعادة. كذلك، أنماط البناء والعيش والملابس والعلاقات بينهم. هذه المُفردات كلّها مستلّة من صميم الريف الإيطالي ومُعتقداته وتقاليده، المُشَاهَدة في أفلامٍ بالأسود والأبيض لكبار المخرجين الإيطاليين منذ أربعينيات القرن الـ20.

بالتأكيد نجحت أليس رورفاخر في خلق هذه الأجواء كلّها، التي أعادتنا إلى جماليات زمن مُفتَقد في تلك السينما العريقة، خاصة في الجزء الأول من فيلمها الأخير هذا. حتى الألوان والملابس في ذلك الجزء تُعزّز قوّة هذا الشعور، ناهيك عن اختيارها شخصيات مُقنعة في تجسيد أدوار الفلاحين وبؤسِهم. بعد لقطات رائعة، ومواقف مُضحكة تارة وإنسانية تارة أخرى، وقبل أن يتسرب الملل ويُطرح سؤال "ماذا بعد"؟ تبدأ رورفاخر في استخدام موهبتها في التلاعب بخيوط حبكتها القائمة أساسًا على اللعب الزمني. إذْ يُمكن تأويل الفيلم على أساس فكرة الزمن، أي تأويلاً فلسفيًا، إلى جانب تأويله الاجتماعي والسياسي والفني.



فجأة، مع وصول الماركيزة ألفونسينا دي لونا (نيكوليتا براتشي) وابنها تانكريدي (لوكا تشيكوفاني) وابنتها أنتونيا (أنياسي غرازياني)، وهي إقطاعية تملك أراضي التبغ التي يزرعها هؤلاء الأقنان منذ عقود طويلة، يتّضح أننا بصدد إغراق عميق في الزمن. من هناك يأتي التناقض الفني المُربك، وهو تناقض مُتعلّق بالأزياء والألوان وغيرها. في الوقت نفسه، هناك راديو حديث و"ووكمان" وهاتف محمول. لكن، قبل اتّهام السيناريو بالضعف، يتبيّن أنه تمّ عزل هؤلاء عن العالم من جانب الماركيزة نفسها لاستغلالهم، كي لا يطالبوها بأية حقوق. يُدركون فيما بعد أن ما عاشوه من فقر وبؤس وجهل مُتعمّدٌ من الماركيزة، التي لم تكترث بمصّ دمائهم منذ أعوام (هذه قصّة حقيقة جرت وقائعها فعليًا).

لازارو (أدريانو تارديولو) شخص هامشي تمامًا، ومجهول الهوية. لا يُفسِّر السيناريو من أين جاء وماذا يفعل، أو سبب وجوده هناك، أو لماذا يتقبّله أهل القرية بينهم. أهو مُجرّد شاب، يُثير أحيانًا شعورًا بأنه على قدر من العته أو البله أو الطيبة الزائدة عن حدودها؟ إنه بِكر تمامًا. يستغله الجميع لتنفيذ أعمال مختلفة يستنكفون هم عن القيام بها. يعيش وحيدًا في أطراف القرية وسط المرتفعات، من دون منزل أو حتى كوخ صغير يأويه، فهو مُقيم في شبه كهف مهجور يقيه الشمس والرياح والأمطار.

يوميًا، يهبط إلى القرية ويساعد الجميع في أعمال يطلبونها منه مقابل بعض الطعام. تلك هي حياته السعيدة الهانئة. وهي كذلك بالفعل. فلغالبية أهالي القرية مشاكل حياتية عديدة، ليس أقلها خطر الذئب المُحدق بهم؛ بينما لا يملك لازارو شيئًا يبكي عليه. إنه متصالح مع نفسه، ومتسامح مع الحياة والبشر والعالم حوله.

بشكلٍ لا يُمكن تصنيفه بالواقعية أو السحرية أو الغرائبية أو غيرها من التصنيفات، تتحوّل أحداث "لازارو السعيد" مع وقوع انقلاب مُباغت، من دون مقدّمات يُمهِّد لها السيناريو. فبعد انعقاد ما يمكن وصفه بالصداقة أو التعارف الجاد بين لازارو وتانكريدي، ابن الماركيزة، يخترع الأخير فكرة اختطافه لابتزاز المال من والدته، فيختبئ عند لازارو. أثناء البحث عنه، ينزلق لازارو ويهوي من فوق الجبل. نجزم بموته الحتمي. لاحقًا، بعد انكشاف خدعة ابن الماركيزة وإنقاذ أهالي القرية والتسليم بموته، يوقظه الذئب، فيبدو كأنه كان في سُباتٍ عميق. لا بأس بقبول الأمر، رغم واقعية الأحداث. يعود لازارو إلى القرية ويدخل قصر الماركيزة فيجده أطلالاً، وسارقون ينهبون ما بقي منه. بعد إيهامه بأنهم ينقلون الأثاث إلى المدينة بناء على طلبها، يرشدهم إلى المُخبّأ في القصر، ويذهب معهم إلى المدينة التي يزورها للمرّة الأولى في حياته.



عندئذ، يظهر لازارو شبيهًا بأهل الكهف، مات أو نام عشرات الأعوام، إذْ انقضى الوقت سريعًا، بينما هو ظلّ كما كان. صدفةً، يعثر مجددًا على بعض أهل قريته. الأطفال صاروا بالغين، ومتوسطو الأعمار باتوا كهولاً. ينزعجون ويخافون حالة لازارو، ثم يقبلونها بعد شكّ طويل في كينونته بسبب ما حدث له، وأين كان، وكيف لم يكبر. في المدينة، كما في القرية، يظلّ لازارو على طيبته وبراءته و"سذاجته". لا تُدهشه المدينة ولا قسوتها. لا يأبه بالحياة المدنية حوله، كأنها غير موجودة البتّة. تدريجيًا، يلتمّ شمل هؤلاء ومعهم لازارو على تانكريدي (توماسّو رانيو) وشقيقته (ألبا رورفاخر) المتقدِّمين في العمر، واللذين يعيشان متسوّلين، ومَدينين لأحد المصارف. من دون أن يُدرك حتى ما يعنيه لفظ مصرف، يتوجه لازارو إلى إحدى تلك المؤسّسات. هناك، تختم أليس رورفاخر فيلمها واضعة له نهاية مُدهشة لا تخلو من الغرائبية والسحر، تمامًا كفيلمها كلّه.

إنها إيطاليا المُعاصرة، التي يستحيل، وفقًا لمنطق "لازارو السعيد"، أن ينفصل ماضيها عن حاضرها. وحاضرها ليس انعكاسًا لماضيها القريب أو البعيد فقط، بل إنه لا يقلّ فداحة وقسوة ولاإنسانية عنه، في ظلّ استغلال الجميع للجميع، باستثناء لازارو طبعًا، الصادق والبريء الوحيد بينهم. ربما هو فئة من الشعب الإيطالي. فئة قليلة خيِّرة، مُندثرة بالتأكيد. هو تجسيد لمفهوم الخير العابر للزمن، رغم تبدّل الأوضاع واختلاف المجتمعات والأزمان. ما يلقاه أخيرًا هو مصير من يجسّدون تلك الفكرة، لكن لازارو في النهاية سعيد بالكيفية التي عاش بها حياته، حتى وإن كان غافلاً عن ماهية الحياة أصلاً.
المساهمون