"مصطفى زاد" لنضال شطا: ثورة إنسان مقهور

24 ديسمبر 2018
فاطمة الناصر في "مصطفى زاد" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
أمام الخراب العظيم في المشهد السياسي العربي اليوم، تبدو صرخة مهدي عامل "لستَ مهزومًا ما دمتَ مقاومًا" كأنها تحتفظ ببريقها، السياسي والاجتماعي، في "مصطفى زاد" ثالث أفلام التونسي نضال شطا، الحاصل مؤخرًا على جوائز مختلفة، محققًا بذلك نجاحًا باهرًا في الأوساط السينمائية التونسية، لتطرّقه إلى موضوع حساس للغاية، يمسّ البنى الفكرية والاجتماعية، وإلى ما آلت إليه البلدان العربية بعد "الربيع"، فانكشف الفقر والعجز واستبداد الأنظمة السياسية، وعطب مؤسساتها، وبؤس قوانينها وأعرافها التنظيمية للمجتمع. وهذا ما حاول شطا إبرازه في جديده هذا، بعد "كول التراب" و"السراب الأخير"، بعيدًا عن الأفلام الوثائقية التي أنجزها طويلًا، متخصّصًا بعالم البحر، فإذا بـ"الأفق الضائع" (وثائقي قصير) يجعله أحد أبرز وأهم الأكاديميين المتخصّصين في هذا المجال في العالم العربي. 

أفلامه الطويلة، التي بدأ إنجازها عام 2000، أكدت نضجه وإبداعه، وهو يخطّ لنفسه مسارًا فنيًا مغايرًا عن الأفلام الوثائقية التي يكون بُعدها أكاديميًا لا فنيًا.

يبدأ "مصطفى زاد" بموسيقى نوستالجية عن الوطن، عارضًا صُوَرًا فوتوغرافية تكشف بؤس المجتمع التونسي وهشاشته، في قالب كوميدي يسخر من التكتلات السياسية وأساليب تنظيم انتخاباتها وأوضاعها الاقتصادية، وتمرّد عناصر أمنها على الفرد التونسي، والاستعمال العشوائي والمفرط لسنّ القوانين. يروي الفيلم (تمثيل عبد المنعم شويات وعيسى حراث وفاطمة الناصر) قصة مصطفى، مُقدِّم برنامج إذاعي يعاني توترًا نفسيًا بسبب مشاكل مع زوجته وابنه المراهق. تزداد أوضاعه حدّة بعد طرده من العمل، فتشتبك مشاكله وتتقاطع وتتشعّب مع الأوضاع السياسية العامّة في البلد، في الـ24 ساعة الأخيرة من انتخابات عام 2014.
مصطفى إنسان مقهور بسبب مواقفه وتعرّضه لعنفٍ رمزي من زوجته، التي تقلّل من قيمة وجوده كرجل في البيت، الذي تعتبره مُلك والده لا مُلكه هو. يبقى صامتًا في غالبية المشاهد بسبب مواقفه تجاه المجتمع والسياسة، ورفضه طريقة تنفيذ الانتخابات. يُصاب بألم في الأسنان، وتنفد سيارته من الوقود، بعدما قادته إلى مستودع حجز السيارات. تتغيّر نياته، ويأخذ الفيلم مسارًا مغايرًا، فيُقرّر الثورة على ذاته المكلومة وأوهامها، وعلى المجتمع والدولة، فيتحوّل من صحافي مغمور إلى بطل مشهور.

حركة الكاميرا في ارتجاج دائم. تتنقّل في الواقع العربي بتفاصيله المزرية كلّها، وتتسلّل إلى المشهد السياسي والاجتماعي بإبراز ظاهرة رهيبة في المجتمع التونسي، تتمثل بتسلّط المرأة (زوجته ومديرته ووالدته)، وبعبارات هي أفكار وعناوين سوداوية، كـ"الجنة تحت أقدام الأمهات أما أمي..."، و"نساء بلادي رجال ونصف"، إلخ. كما تبدو الصورة السينمائية أكثر التحامًا بالواقع التونسي وأعمق تجذّرًا فيه، وهي تعيد رسم شروخ الذات والأنا التونسية بآلامها ومواجعها، انطلاقًا من شخصية مصطفى، الذي يحاول تغيير واقعه من الفساد المستشري فيه.
رغم فقره السينمائي، يمتلك "مصطفى زاد" غنىً كبيرًا على مستوى الموضوع، لا في أسلوب معالجته للواقع، بل في أبعاده السياسية والاجتماعية الحرجة، التي تمسّ الأنظمة السياسية ومؤسساتها الرجعية. كما يفضح الفقر المدقع الذي تعانيه قوانينها وهياكلها التشريعية. يقول مصطفى للوزير: "أنا لا أعرف كوبا، لكنّي أعرف الإنسان التونسي ومعاناته، وأعرف الطبقة السياسية وانتهازيتها ومدى غرقها في الفساد".

لا يُمكن إنكار قيمة الفيلم، وما يمكن أن يفتحه نضال شطا أمام المخرجين العرب الشباب من آفاق سينمائية مغايرة، مقارنة مع ما اعتادت السينما العربية تقديمه من ارتباك وترفيه. ينجح في إبراز خصوصيات المشاهد السينمائية عن الواقع السياسي، بنتوءاته وجزئياته وغليانه اليومي، لذا هو مقبول، لارتكازه على طروحات يقينية عمّا بعد الربيع العربي، ولاقتراحه النظر إلى الوضع من زاوية أكثر واقعية، بعيدًا عن الأحلام الطوباوية التي يروِّج لها الإعلام الرسمي التونسي. كما أنه يعيد طرح موضوع "سينما الربيع العربي وما بعده"، وما يفرضه هذا النزوع من مقاربة نقدية وسينمائية لنوعية الخطاب الجمالي، الذي يحاول مخرجون عرب عديدون إيجاد آفاقٍ تخييلية صلبة، تؤسّس جماليات عربية جديدة في المشهد السينمائي العربي، رغم عدم نجاحهم لغاية الآن في تحقيق هذا.
المساهمون