بعيداً عن دوافعها، لا تزال الهجرة حلماً يستحيل على البشر التخلّي عنه. منذ زمن، يُهاجر الناس بحثاً عن الأفضل: وطن وعمل وحرية، وغيرها. الهجرة حقّ مشروع لهم منذ الأزل. باستثناء التغلّب على حدود طبيعية (جبال وصحارى وأنهار ولغة، إلخ)، لم تُشكِّل الهجرة معضلة. حرية التنقّل مكفولة. لا حدود اصطناعية تحول دون انتقال المرء من مكان إلى آخر، أو تحقيق حلمه في الارتحال بحثاً عن أرض وهواء وسماء جديدة. الحدود الحالية، كاختراع أصيل لإنسان العصر الحديث، تسبّبت في إزهاق أرواح ملايين الناس، المتجاسرين على اجتيازها. وطالما ظلّت الحدود قائمة بين البلاد، ستبقى المشكلات الناجمة عنها قائمة أيضاً، من دون أمل في نهاية وشيكة، لأن المرء لن يتوقّف عن تحقيق حلمه القديم في الهجرة.
في فيلمها الروائي الأول، "تحديد الملامح"، تتناول المكسيكية فرناندا فلاديز (1981)، حلم الهجرة وقضية الحدود بعمق واختلاف وجدّية، وبمهارة فنية لافتة للانتباه. يلامس الفيلم حدود البشر وطاقاتهم، وقدرة النفس البشرية على التحمّل والتحدّي. لكنّ هذا يصبّ في سياقٍ عام يرتبط بالحدود المادية القائمة بين الدول، وتحديداً بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية؛ كما يناقش قضايا متّصلة بقضية الحدود، كالعنف المسلّح والتهريب بأنواعه المختلفة، وأبرزها المخدرات والنفط، والاتجار بالبشر، والاختفاء القسري، وغيرها.
رغم الثقل السياسي للموضوع، وللقضايا الفرعية التي يتناولها، لم تُطرح مسألة الهجرة من منظور سياسي، أو كقضية كبرى، إذْ عولجت اجتماعياً ونفسياً وإنسانياً. مع أستريد رونديرو، شريكتها في كتابة السيناريو، تُقدِّم فلاديز طرحاً مُغايراً، يتّسم بالترابط والقوّة، في مصداقية الطرح والأحداث الواقعية والحوارات السهلة والموجزة. هذا ينمّ عن موهبة في السرد والصوغ، وإنْ يؤخذ على الطرح "شعرنة" أحداثٍ، أو التخفيف من واقعيتها في إطار فانتازي.
يرتكز الفيلم على علاقة أمٍ بابنها المفقود. علاقة تُبرِز بشدّة عاطفة أمٍ بسيطة وحدسها. أم شبه أمّية، لا خبرة لها في الحياة، ولم تخرج يوماً من قريتها الصغيرة في ولاية "غواناخواتو"، وسط المكسيك، لكنها تصدّق عاطفتها، وتؤمن بحدسها.
"تحديد الملامح" ـ الفائز بجائزة الجمهور كأفضل فيلم والجائزة الخاصة للجنة التحكيم كأفضل سيناريو، في مسابقة الدورة الـ36 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي" ـ ينتمي إلى نوع "أفلام الطريق"، إذ تقوم الأمّ برحلة شاقّة ومحفوفة بالمخاطر من قريتها في غواناخواتو إلى أقصى الشمال، حيث الحدود المكسيكية الأميركية. رحلة ماراثونية، تقطع الأم خلالها أكثر من نصف مساحة المكسيك.
ماغدالينا محور الفيلم، تُقدِّمها مرسيدس هرنانديز بأداء شديد الإقناع وبالغ البساطة. أرملة في أواخر أربعينياتها. ابنها الصغير خيسوس (خوان خيسوس فاريلا) يبلغ من العمر 12 عاماً، ويظهر في لقطة واحدة تشبه حلماً في افتتاح الفيلم، يُخبر فيها والدته بأنه سيغادر مع صديقه ريغو. بعد شهرين، لا تتلقى خبراً منه أو عنه، ولا مكالمة هاتفية. في آخر اتصال، يقول لها إنّه سيستقلّ حافلة متّجهة إلى أقرب نقطة حدودية، ثم ينتقل سرّاً إلى ولاية أريزونا.
لا تستخدم ماغدالينا هاتفاً خلوياً، فتُخبرها جارتها شويا (لورا إيلينا إبارا)، والدة ريغو، باستدعائها من قبل شرطة أحد مراكز الحدود. تتعرّف شويا على جثة ابنها بفضل صُور ملتقطة لأطفال وصبية ورجال قتلوا بعد تعرّضهم للتعذيب، وهذا غير منطبق على خيسوس، الذي يُعثَر على حقيبة ملابسه بين جثث مكتشفة في قبر جماعي. لاحقاً، يتبيّن أنْ رجال الشرطة غير متعاونين، وهمّهم الأساسي إيقاف البحث وإغلاق القضية. لذا، يحثّون ماغدالينا على التوقيع على إفادة بوفاة ابنها.
عبر خطّ سردي آخر، تظهر الجرّاحة أوليفيا (آنا لورا رودريغز)، التي يُفقد ابنها منذ 4 أعوام. تلتقي ماغدالينا صدفة في مركز التعرّف على الجثث. تُقنعها بعدم التوقيع على تلك الإفادة الرسمية، وتحثّها على عدم الاستسلام، طالما أنّها تحدس بكونه حيّاً، حتى وإن كانت الدلائل تُشير إلى موته. سبب الظهور السريع لأوليفيا وشويا كامنٌ في القول إنّ المأساة لا تقتصر على طبقة اجتماعية واحدة، فهي تُصيب الجميع في المكسيك من دون استثناء.
اقــرأ أيضاً
مع بعض الإثارة، وتطوير خلّاق للقصّة ولخيوط الرحلة، والابتعاد عمّا هو متوقع، بالإضافة إلى جمال التصوير وفنيّات سردية بسيطة لكنّها ملحوظة، يلتقي ميغل بماغدالينا في قريته الحدودية، التي تسيطر عليها مليشيات مُسلّحة لا تخضع لسلطة الدولة، والتي يُهجّر أهلها ويُقتلون، ويُستولى على ممتلكاتهم. يُدرك ميغل أنّ والدته مقتولة، وتدرك ماغدالينا أنّ العثور على ابنها بات ضرباً من العبث، ولا طائل منه، فتطلب من ميغل أن يعيش معها، لتكون أمّاً له، ويكون تعويضاً لها عن ابنها. نهاية تبدو مُستهلكة، وتشبه كثيراً النهايات السعيدة. لكنّ فلاديز تفاجئ، قبل النهاية، بغير المتوقّع، إذْ تتطوّر الأمور سريعاً بعد هجوم المليشيات على منزل ميغل، فيفرّان معاً. لكن، نظراً إلى محاصرة المنطقة، يصعب عليهما الخلاص، فيُنقذ ميغل ماغدالينا، ويفديها بحياته. هذه أيضاً ليست نهاية الفيلم، التي تتحوّل إلى كابوسٍ لماغدالينا.
خاتمة صادمة وحزينة، تطرح أسئلة كثيرة تتعلّق بحدس ماغدالينا، وبما إذا كانت صائبة فعلياً في بحثها عن ابنها. فهل الظاهر على وجهها دلالة حسرة أو خذلان أو ندم على قيامها بتلك الرحلة؟
رغم الثقل السياسي للموضوع، وللقضايا الفرعية التي يتناولها، لم تُطرح مسألة الهجرة من منظور سياسي، أو كقضية كبرى، إذْ عولجت اجتماعياً ونفسياً وإنسانياً. مع أستريد رونديرو، شريكتها في كتابة السيناريو، تُقدِّم فلاديز طرحاً مُغايراً، يتّسم بالترابط والقوّة، في مصداقية الطرح والأحداث الواقعية والحوارات السهلة والموجزة. هذا ينمّ عن موهبة في السرد والصوغ، وإنْ يؤخذ على الطرح "شعرنة" أحداثٍ، أو التخفيف من واقعيتها في إطار فانتازي.
يرتكز الفيلم على علاقة أمٍ بابنها المفقود. علاقة تُبرِز بشدّة عاطفة أمٍ بسيطة وحدسها. أم شبه أمّية، لا خبرة لها في الحياة، ولم تخرج يوماً من قريتها الصغيرة في ولاية "غواناخواتو"، وسط المكسيك، لكنها تصدّق عاطفتها، وتؤمن بحدسها.
Twitter Post
|
لا تستخدم ماغدالينا هاتفاً خلوياً، فتُخبرها جارتها شويا (لورا إيلينا إبارا)، والدة ريغو، باستدعائها من قبل شرطة أحد مراكز الحدود. تتعرّف شويا على جثة ابنها بفضل صُور ملتقطة لأطفال وصبية ورجال قتلوا بعد تعرّضهم للتعذيب، وهذا غير منطبق على خيسوس، الذي يُعثَر على حقيبة ملابسه بين جثث مكتشفة في قبر جماعي. لاحقاً، يتبيّن أنْ رجال الشرطة غير متعاونين، وهمّهم الأساسي إيقاف البحث وإغلاق القضية. لذا، يحثّون ماغدالينا على التوقيع على إفادة بوفاة ابنها.
عبر خطّ سردي آخر، تظهر الجرّاحة أوليفيا (آنا لورا رودريغز)، التي يُفقد ابنها منذ 4 أعوام. تلتقي ماغدالينا صدفة في مركز التعرّف على الجثث. تُقنعها بعدم التوقيع على تلك الإفادة الرسمية، وتحثّها على عدم الاستسلام، طالما أنّها تحدس بكونه حيّاً، حتى وإن كانت الدلائل تُشير إلى موته. سبب الظهور السريع لأوليفيا وشويا كامنٌ في القول إنّ المأساة لا تقتصر على طبقة اجتماعية واحدة، فهي تُصيب الجميع في المكسيك من دون استثناء.
بحرص بالغ على تجنّب الميلودراما، تعرض فرناندا فلاديز البحث الحثيث لماغدالينا عن ابنها، رغم تحذيرات ومخاطر وتهديدات مبطّنة تدعوها إلى صرف النظر عن رحلتها تلك، التي تبدو (ماغدالينا) في بدايتها شخصية أخرى جديدة. الشاب ميغل (ديفيد إيليسكاس) يُرحَّل من أميركا بعد إقامة غير شرعية لـ4 أعوام، فيُصوِّر الفيلم عودته إلى قريته ووالدته، التي لا يجدها.
مع بعض الإثارة، وتطوير خلّاق للقصّة ولخيوط الرحلة، والابتعاد عمّا هو متوقع، بالإضافة إلى جمال التصوير وفنيّات سردية بسيطة لكنّها ملحوظة، يلتقي ميغل بماغدالينا في قريته الحدودية، التي تسيطر عليها مليشيات مُسلّحة لا تخضع لسلطة الدولة، والتي يُهجّر أهلها ويُقتلون، ويُستولى على ممتلكاتهم. يُدرك ميغل أنّ والدته مقتولة، وتدرك ماغدالينا أنّ العثور على ابنها بات ضرباً من العبث، ولا طائل منه، فتطلب من ميغل أن يعيش معها، لتكون أمّاً له، ويكون تعويضاً لها عن ابنها. نهاية تبدو مُستهلكة، وتشبه كثيراً النهايات السعيدة. لكنّ فلاديز تفاجئ، قبل النهاية، بغير المتوقّع، إذْ تتطوّر الأمور سريعاً بعد هجوم المليشيات على منزل ميغل، فيفرّان معاً. لكن، نظراً إلى محاصرة المنطقة، يصعب عليهما الخلاص، فيُنقذ ميغل ماغدالينا، ويفديها بحياته. هذه أيضاً ليست نهاية الفيلم، التي تتحوّل إلى كابوسٍ لماغدالينا.
خاتمة صادمة وحزينة، تطرح أسئلة كثيرة تتعلّق بحدس ماغدالينا، وبما إذا كانت صائبة فعلياً في بحثها عن ابنها. فهل الظاهر على وجهها دلالة حسرة أو خذلان أو ندم على قيامها بتلك الرحلة؟